كـلـمـات لروايـة لا تنتهي
الكاتب: خاشع رشيد.
إنّها لا تنتظر، إنّها تعلم بكونها فرضيّة، لا غير…
فجأةً تترك القلم جانباً وتلبس معطفها، تنظر إليه حائرة، لوهلة، ثم تبتسم للجميع، كانت تقصد ” ما الذي تعلّمناه في هذه الجّلسة؟ ” فجأة تعلو الأصوات، الكلٌّ يردّد لها كلمات ميّتة اللكنة والمعنى، تعلّموها منها، فتتعلّق بها وشيئاً من نظرته، تمشي هي وتغادر المكان، المطر يمحي كلّ شيء منها، في الطريق… هو لا يكره الأبيض، واللقاء يكون على هذه السرير، دائماً.
ليس الأمر تفضيلاً أو تحليل منحاز، إنّما حبّات رمّان وإجازة قصيرة للسلوك والأسلوب الحذرَين، كما لو أني أقول مثلاً: إنّهم يعوون في كلّ مكان، أينما حلّوا، هذه أفضل ميّزة يحملونها لأجسادهم التّالية، في جيوبهم.
أعدك دون مقابل، لا تدع مستقبليّة الأحوال المتغيّرة، هناك أنا دون نفسي، وهناك الآخرون، وهذه، والتناقض المطلق صاحب وآمر الكلّ، كما كلّ وقت… إستبدالٌ لمواقع الزّمن، فقط هذه تبقى بعيدة عن تركيزك، كما أنت الآن. كريه هواؤهم، ليسوا هنا الآن، فقد نظّفت هذا الحيّز منهم، هم ليسوا بمأمنٍ هنا، ربّما هنا فقط، حاول أن تتنفّس جيّداً، فأنت لست معهم… قد تحتاجه يوماً ما، قد تسمعهم يوماً.
ليست صدفة، وليست مسألة مضيّ وقت، معلومٌ أنّك لم تتغيّر كثيراً، ولم تغيّر الكثير أيضاً، في أول شجارٍ، أوّل اعتذارٍ وأوّل مشهدٍ خلاعيّ، حين جرّك إلى عمق ومركز توتّر جديدٍ ما، محض أثرٍ محدّث ومستمر. لا أزال أخبّئك بعض الأحيان، لا أزال أحفظك منذ تلك اللحظة، كان أسوداً، ربّما كان ليلاً، لمستك قليلاً وتنفّستني قليلاً، هل تتذكّر شيئاً منّي؟ ألعب وأرقص وأفعل كلّ ما يدغدغك، في الطريق وفي نفسي، وحدي ومع الجّموع، أعرف أنّك لا تزال تحتفظ بقَسَمٍ مؤجّلٍ لحين إدراكٍ قد تكتسبه، قد يأتي ذلك فجأةً، في زمنٍ يخالفك عمراً، أو أنت بهيئة آخَرٍ بعيد، من كلّ ما خلف هذه الكلمات التي لا تجد مصبّات، إلى الآن… هذا بالضبط ما لا أعنيه أبداً. لا أعنيك بذاتك، ولا أعينك عليه، ولا أنعيكما، أنتما الإثنان.
إذاَ أنت تتغيّر مرغماً، وهذا ليس بجديد وغريب، أنت أيضاً تعرف ذلك، ببساطةٍ؛ أبدو مضحكاً في هذا الوصف أو الشّرح، نعم لست بارعاً في ذلك، كأنّي أستهزأ من شيءٍ أو من أحدٍ ما، كأنّي أشتهي شتم أمرٍ ما، هل لي أن أستأذن إن أردت البدء بك؟!! لابدّ أن أصحّح هذا، فيصبح الهدف كالتالي: التغيير هنا ليس بالضرورة أن يكون سببه الألوان أو مساقط النظرات أو اضطراب نسب الهرمونات، أو حتّى النَّفَس وأيّة حركةٍ مخلخلة، عليك أن تضحك للتغيير فهو أنت أو آخر، وجميع الإحتمالات التي لا تخطر لك… وتتغيّر الأسئلة لحظيّاً، كما عدم استئذاني، رغم ذلك تبقى البعض منها موثوقة مخلصة، تتضخّم أحياناً، تلد أحياناً، وأحياناً تكاد لا تفارق الحياة، قد تنهيك في أوّل بصمة موقف… مثال وفاء للوجود.
كانا يخطّطان معاً، يحاولان أن يفكّرا في نفس الأمور، نفس علبة السّجائر، ونفس نوعيّة المشروب، يتشاجران في أغلب المواضيع، كانا في نفس العمر، لم يحلقا ذقنيهما وشواربهما سويّة، وعلى الأرجح لم يبلغا في نفس الوقت. إحدى المرّات تحدّث عن أنثى كانت تتعرى له من على بعد أكثر من مائة متر، وهو أيضاً، فيصف بأنها كانت تريده بداخلها، وبدأ يتحدّث عن أهميّة عضوه الذي أصبح السّبب الوحيد لبقائه، وأنه ليس مستعدّاً أن يخسره حتى لو احترقت الأرض، بمن عليها، وأن حياته بدأت بعد أوّل ردّة فعلٍ منه، أوّل بصق، أوّل احتلام وأوّل عمليّة حقيقيّة، ويتسائل إن كانت قد توصّلت هي الأخرى إلى نفس الفكرة. هكذا ينهي: ذلك اللعين قد غيّرني، المهم أنّي لست أنا، أنا لم أغيّر شيئاً.
ألم يحن وقتك دونك؟
هل تغيّر ترتيبك؟
هل استُبدِلت؟
هل بقيت؟
هذا هو، إنه هو، يأتي ويأتي، عائداً وماضياً وجالساً، مختلفٌ بعض الشّيء، كما كلّ مرّة، لكن لازال هو نفسه، لا زال يتعرّق ويعرج، لا تزال أنفاسه تنقطع وأطرافه تنخلع في حمل ذاته، لا يزال يموت متى تشاء أنت، إذن تميته أو تجعله حيواتاً لا محدودة لا محظوظة، ربّما تمحيه أفعال الزّمن، يتحدّث عن كلّها وبتفاصيلها، لم يتعب هو من الكلام ولا هي من الإستماع والسؤال:
ـ ماذا كنت سأقول؟ يسأل طفلته.
ـ ربما لا شيء يا والدي. تردّ عليه ابنته.
ـ نعم، لا شيء، نعم، هذا ما كنت سأقوله يا حبّتي.
يستمرّان في البصق على اللوحة، الطفلة تنادي كلّ مارٍ، أغلبهم لا يعارض ويشارك بفرح، اللوحة معلّقة على جميع الجدران، اللوحة تملىء سقف وأرضيّة الغرفة، وربّما هم أيضاً، الغرفة تتوسع كلّما يدخلها آخر، كلّ يبصق كما يريد وبالطريقة التي تعجبه، حجماً، حركةً، شكلاً وتركيباً، اللوحة في جميع الجهات وعلى مدى امتداداتها، إنها غرفةٌ غريبة، جميلة، لا تشبه التي كنت أتخيّلها دائماً، ولا تشبه غرفتي الجنينية… قد تكون زمناً منعكساً أو كلّ ما يتعلّق به ويمسّه بصلة.
دعنا من هذا، ومن ذلك الذي يختار لنا ما نقبله أو نرفضه، فلا مقاومة تُذكر أمام كلّ إحساسٍ لإيقاف ألمٍ مستقبليٍّ في ذات الإتجاه، الطريقة ليست بالابتعاد عنه ولا صراعه، وعلى الرّغم من أنك قد لا تملك ميّزة التراجع والعودة، لكن عليك أن تتعب نفسك، تفكيراً، في المحطّة القادمة، وهي ليست الأخيرة، سيكون هناك اجتماع لإنهاء أمورٍ ما، قد يكون بعقدٍ جديدٍ مع الموت. الفكرة لم تقترف ذنباً ولم تقبل بهذا المعنى، منذ البداية، حتى وإن كنت غير مدركٍ لما سيحدث للقاعة التي سيدخلها شخصان في هيئة غبار، ويأخذانك إلى ما تودّ فعله حين ستكبر في ذهن مَن لم تسعفه كلّ لامحدودية الأرواح المحيطة، القاعة لم تتهدّم بعد، لا زالت ترعى شهوةً لشريكتك، على الأقل… ما رأيك بكلّ ما سيحصل إن لم تنفرد هذه اللغة في حيلة الآتي؟.
ليس هناك ” أهم ” بالنّسبة لهذه الجمل، وفيها، لن أوصيك بها، لا عليك، لا تحاسبها على هذه الإزدواجيّة، لا تدرجها قياساً، فقط لا تجرّب ذلك، تلك لا تكفيك، ولا تكفيك مجموع كلّ الكلمات… ليست واضحة، هذه جرائم في الكتابة. كما كلّ حياة، لا ينهي أيّ شيء، يعجّل لفوضى زمانيّة، ويعدّ طبخة ما؛ يأمر نفسه بإضافة ماءٍ لها، وقليلاً من الماء وأيضاً ماء والكثير من الماء، وماء وماء، الماء وحده ولا شيء آخر… حالة لا تحتاج الكثير من التّحليل، هو عطش جدّاً.
لنعد للنتيجة المعلومة مسبّقاً، لم تتبلّل اللوحة، هذا ما كنتم تتوقعونه، مثل الرّياح، إنها وفيّة باستمرار، لكن لم ينتهي البصاق أيضاً، وهي متروكة لها، قد تعترف لكم في لحظةٍ ما.
أنا لم أنسى، أنا لا أزال أسمعهم، كانوا يعوون كثيراً، هنا في هذه المدينة، وحيث هم الآن، هم يجيدون ذلك، حقّاً… أنا لست مستغرباً!!.
……………………………………………….