لا أصدقاء حتی الجبل..
أحمد الزاويتي
أتعبتني ثلاثة أيام من الانتظار والمتابعة والترقب، كم أصبحت التغطيات الصحفية تؤرقني! فهأنذا قضيت ربع قرن من عمري في الإعلام، سبع عشرة سنة منها صحفيا ومراسلا أنقل الأخبار، أعمل على التقارير، لأفقد الآن الكثير من حماس الشباب في تغطياتي الصحفية، ومع ذلك ما زلت مستمرا.
بريدي الإلكتروني غير المقروء وصل إلى واحد وعشرين ألفا وأربعمئة وثمانين رسالة، كلما أنظر إلى جوّالي أرى الرقم على خلفية حمراء، يصيب الرقمُ نفسيتي، أشعر بالاضطراب، رسائل الفايبر غير المقروءة وصلت إلى ألف واثنتين وثمانين رسالة، جوالي يطنطن بين كل لحظة وأخرى، مشيرا إلى رسالة قد وصلت، لا أعيرها اهتماما، لكن الطنين أصبح مزعجا، غيّرت صوت رنتها كثيرا، لم يفدني ذلك فجميع رنات الجوال تستفزني، عمدت أخيرا إلى حيلة إلغاء صوت الرنة نهائيا، ليكون الجوال صامتا حتى دون هزة، كي لا أشعر به تماما.
لا أتخلص من إزعاجها، نفسيتي تدفعني لا إراديا بين كل لحظة وأخرى إلى جوالي، لأعرف هل من جديد؟ هل من اتصال؟! لا أستطيع أن أتخلص من الاندفاع نحو معرفة ما يحصل، وكل ما يحصل أصبح الآن مزعجا، مؤرقا، بل كئيبا، كم كان صديقي صادقا عندما ترك مهنة مدير محطة فضائية كبيرة، فأبديت أسفي لذلك، لكنه قال لي: “يكفي يا أحمد، ثماني سنوات تكفي! ثم إن الحدث أصبح يدخل دارنا فكفاني الله شرّ تغطيته، أنا الآن أغطي الحدث الذي يدخل داري”، صدقت يا صديقي، كم هو مؤلم عندما أقول هاجم فلان، وانتصر علان، وانهزم زيد، واختفى عَمرو، وقُتل هذا وجُرح ذاك، والدماء تسيل، والبيوت تخرب، والناس يهربون، نازحون، لاجئون، من هم؟! كل أولئك هم نحن ونحن هم.
كانت الأخبار المتداولة من مجلس أمن كردستان، منذ ثلاثة أيام، هي أن بغداد بقواتها المختلفة، كجيش، وشرطة اتحادية والحشد الشعبي، يخططون للهجوم على مواقع البيشمركة في كركوك، كنت أشعر بالقلق والتوتر، ألا يكفي الحرب والقتال؟ ألم يشبعوا من سيل كل هذه الدماء منذ خمسة عشر عاما؟ وهم لا يقاتلون عدُوا خارجيا فالمعركة كلها في داخلنا! في مدننا، داخل أحيائنا، والمقتولون منا والقاتل فينا، والخراب لنا، منذ خمسة عشر عاما والقتل لم يتوقف، اغتيالا، تفجيرا، حربا، مواجهات، على كل الهيئات والصور، ما كان يهدّأ من روعي أن بغداد تنفي وتعتبر أن ذلك مجرد بلبلة يقوم بها المسؤولون في الإقليم، لا نية لبغداد على ذلك، كم أخطأ من صدّق بغداد! وكم أخطأنا عندما صدّقناها!
بغداد أعقبت تطميناتها بزيارة للرئيس العراقي فؤاد معصوم إلى كردستان، معصوم لا يقوم بدور فعال في أزمات العراق، يقال هنا إن عصر جلال الطالباني انتهى في العراق، والآن هو عصر رئاسة معصوم الذي لا يعلم عنه أحد شيئا سوى أنه رئيس! الآن كأنه بدأ يتحرك، قد تكون بداية حل للمشكلة بين بغداد وأربيل، فهو هنا في كردستان منذ أمس 14/10/2017 يحمل رسالة من بغداد إلى أربيل، لكن المصادر الكردية أشارت إليها بأن بغداد تطالب أربيل تسليم مواقع مهمة لها، تسليم المطارات، تسليم المعابر الحدودية، أي وضع شرايين حياة كردستان بيد بغداد، لتفقد بعد ذلك كردستان ربع قرن من حكم نفسها بنفسها.
كانت أربيل مطالبة بالتنازل لبغداد، هكذا أصبح الأمر بعد الاستفتاء الذي أُجري يوم 25/9/2017، بغداد قوية وأربيل ضعيفة، وقف الجميع ضد أربيل: تركيا، إيران، الولايات المتحدة الأميركية، بريطانيا، المجتمع الدولي.. فجأة رأت أربيل نفسها وحيدة منعزلة، كل أولئك الذين وقفوا ضد أربيل وقفوا مع بغداد، حتى الرئيس الكردي معصوم كان مع بغداد يحمل رسالة منها إلى أربيل. حينها قال مسعود البارزاني: نحن فعلا أصبحنا كما كنا بلا أصدقاء غير الجبال.
اجتمع معصوم برئيس إقليم كردستان مسعود البارزاني يوم 15/10/2017، في منتجع دوكان بالسليمانية، اجتماع طال وطال، غطيناه من الصباح إلى المساء، وبين كل ساعة وأخرى تتسرب أخبار غير مؤكدة عن اتفاق وعدم اتفاق، ونحن الصحفيون نتحدث عن كل شيء، اتفاق ولا اتفاق، نتعامل مع كل ما يتسرب، المهم نتحدث عن شيء، فلم نأتِ إلى هنا لنسكت!
أخيرا أُعلن عن انتهاء الاجتماع ووصول المجتمعين إلى مشروع سيقوم معصوم المسكين بحمله إلى بغداد، وكان فيه تنازلات كردية لتسليم مواقع للقوات العراقية بالتفاهم، لكن بغداد تمكنت من التمويه على كردستان بين ادعائها بأنها لا تنوي الهجوم، وإرسالها لمعصوم لإيهام الجانب الكردي أن الأمور نحو الحل والتهدئة، ثم استغلت ذلك الوقت للتوغل إلى عمق نقاط ضعف كردية طالما جعلت كل شيء عندهم في مهب الريح.
رجعت إلى البيت في وقت متأخر بعد تغطية يوم متعب، ذلك اليوم الذي غطينا اجتماع معصوم، وغلق إيران لمعابرها الحدودية مع كردستان: معبر حاجيعمران، برويزخان، معبر باشماخ، وتلويح تركيا بغلق معبرها الحدودي أيضا، نعم فنحن الآن في عصر ما بعد استفتاء كردستان، رجعت على أمل أن أنام هذه الليلة، على غير عادة الأيام السابقة حين بقيت مستيقظا ترقبا لأي تطورات لأركض نحوها للتغطية، فأنا صحفي.
قبل كل شيء وضعت رنين جوالي على الصامت، كي لا أسمع رنة ولا طنينا، حذفت من ذاكرتي عالم جوالي، هو يحمل أرقام ثلاثة آلاف شخص وجهة اتصال، ويحمل حسابي في فيسبوك، يربطني بخمسة آلاف صديق وهو الحد الأعلى المسموح به، وفيه أيضا صفحتي في فيسبوك تربطني بخمسة وعشرين ألف معجب، وفيه فايبري وواتسآبي وسكايبي والإيمو وغيرها، في جوالي عشرات مجاميع الاتصال، حذفت من ذاكرتي كل ذلك، كأنني لا أملك الجوال، كم يجذبني الحنين إلى عصر ما قبل الجوال، وما قبل الشبكة العنكبوتية.
لم يكن ذلك سهلا، كان صراعا عنيفا بين هجوم الجوال بما فيه من أحداث وأخبار، وبين مقاومتي له، لم أعرف كم طال الصراع ومتى غلبني النوم، لكنني أعرف أن ضربات عديدة على الباب أيقظتني، سمعت أن ابني ألند يناديني، سمعت في الوقت نفسه رنة جرس الدار، قال لي ألند إن أحدا من المكتب جاء يقول أيقظ والدك إن الهجوم بدأ، نزلت بسرعة ووصلت بملابسي الداخلية باب الحوش الخارجي، قال صديقي: يتصلون بك ولا ترد، الحرب على كركوك بدأت.