آراء

لماذا تحاصر واشنطن تركيا بحزام أمني؟

علي تمي / سياسي وكاتب

على مرّ التاريخ، شهدت منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا تواجداً عسكرياً دولياً هاماً، وتُعتبر تركيا من البلدان التي تحظى بتواجدٍ استراتيجي للقوات العسكرية الأمريكية.

تقع تركيا في موقعٍ جغرافي حيوي بين ضفتين (الأوروبية والآسيوية)، وهذا يجعلها مكاناً مهماً للتعاون العسكري والاستراتيجي بين الولايات المتحدة وحلفائها في الشرق الأوسط..

بعد انتصار الحلفاء في الحرب العالمية الثانية.. مروراً بأزمة صواريخ كوبا، كاد فتيل حرب جديدة أن يشتعل بين المعسكرين : الغربي بقيادة الولايات المتحدة والشرقي بقيادة الاتحاد السوفيتي . وبعد أحداث 11 من سبتمبر التي غيّرت قواعد اللعبة في المنطقة رأساً على عقب.. وصولاً الى غزو العراق تحت حجج واهية، وانتهاءً بحرب أوكرانيا، هذه التحولات في العالم جعلت من الولايات المتحدة صاحبة المبادرة والتمسك بمفاصل الدول التي كانت يوماً ما عدوتها اللدودة .

تركيا وبعد تفكك الإمبراطورية العثمانية أعادت حساباتها من جديد، وفرضت عليها شروط دولية قاسية منعتها من إعادة عظمتها التاريخية، حيث سارعت واشنطن الى تطويقها بحزام أمني بدءاً من اليونان وقبرص مروراً بسوريا والعراق وانتهاءً ببلغاريا، هذا الحزام يراد منه منع تركيا من إعادة أمجادها السابقة، ومحاصرتها ومحاولة إغراقها ضمن مشاكل سواءً كانت داخلية أم خارجية .

تفاصيل الحزام الأمني .

توجد عدة قواعد عسكرية أمريكية محيطة بتركيا، وتعمل كنقاط تواجد استراتيجية للقوات الأمريكية والناتو في المنطقة، تلك القواعد تشكّل اليوم محوراً هاماً لتنفيذ العمليات العسكرية، الدعم اللوجستي، والتعاون الأمني بين الدول. كما تلعب هذه القواعد دوراً حيوياً في ضمان الاستقرار الإقليمي، ومكافحة التهديدات الأمنية المشتركة..

ومن بين القواعد العسكرية الأمريكية المنتشرة في المنطقة، تبرز قواعد مثل إنجرليك الجوية وإنجرليك البحرية في تركيا، والتي تدعم العمليات الجوية والبحرية ،وتعتبر نقاط انطلاق التحالف العسكري للناتو في المنطقة. بالإضافة إلى ذلك، توجد قواعد أخرى في دول مجاورة،مثل اليونان وقبرص وسوريا والعراق وبلغاريا وأفغانستان، حيث تلعب دوراً هاماً في تأمين المصالح الأمنية والعسكرية للولايات المتحدة وحلفائها في المنطقة..

بالمحصلة ،لدى الولايات المتحدة اليوم اكثر من 100 قاعدة ونقطة عسكرية وأمنية تحيط بتركيا من جميع الجهات ، وتتركّز أهمية هذه النقاط والمواقع بالنسبة للولايات المتحدة في أنها تمنع تركيا من التمدد في المنطقة على حساب مصالحها البعيدة . بالإضافة إلى التمسك بخيوط اللعبة في الشرق الأوسط، ومنع تركيا من المشاركة معها في تقسيم الغنائم .

ظلّت تركيا تعاني من حالة الركود الداخلية وعدم الاستقرار، حتى وصل حزب العدالة والتنمية الى سدة الحكم ،فقام بتغييرٍ جذري في الأوضاع الداخلية والخارجية رأساً على عقب ، وتمكّن من إعادة تركيا لمكانتها ودروها المحوري في الساحة الدولية ، إلا أنّ ذلك يصطدم اليوم بالجدار الأمني الذي بنته واشنطن من حولها .

في عام 2015 وبعد دخول واشنطن الى سوريا تحت مظلة التحالف الدولي لمحاربة داعش، سارعت بالتنسيق مع موسكو إلى تثبيت مزيد من النقاط والمواقع قرب حدود تركيا من الجنوب، ودعم حزب العمال الكُردستاني ، وتحويل المناطق الكُردية إلى شبكةٍ من الأنفاق والمدن التي بنتها تحت الأرض شبيهة بما فعلتها حركة حماس في غزة، ورغم تنفيذ أنقرة عمليتين عسكرتين ضد حزب العمال الكُردستاني في سوريا ،إلا أنّ الأخير لايزال ورقة قوية بيد واشنطن تحاول المساومة عليها مقابل تنازلات مطلوبة من تركيا تنفيذها .

مشروع واشنطن الاستراتيجي،هو تقسيم سوريا إلى عدة دويلات ، وذلك يصطدم بالرفض التركي القاطع لهذا التوجه، رغم الضمانات التي قدّمتها بأنّ حزب العمال الكُردستاني لن يشارك في هذا المشروع.

بين هذا وذاك ،تعتبرتركيا اليوم المناطق الكُردية في سوريا التي يسيطر عليها حزب العمال الكُردستاني، هي مناطق نفوذها بالدرجة الأولى ، وبالتالي ستدخلها في نهاية المطاف حتى لو كلفتها حرب عالمية ثالثة . وهذا الاعتقاد هو السائد في الأوساط السياسية والإعلامية التركية حول الواقع الحالي في سوريا.

وبالعودة الى سؤالنا.. ماذا تريد واشنطن من أنقرة حول الملف السوري ؟

تريد منها المصادقة على تقسيم سوريا إلى ثلاث دويلات، مع استبعاد حزب العمال الكُردستاني خارج الملعب، لكنها مترددة حول هذا الطرح الأمريكي ؛ لأنّ تجربة قبرص علّمتها الكثير من الدروس. واشنطن تعرض على انقرة مكاسب وقروض مالية كبيرة ودعم البنية التحتية مقابل تمرير مشروع تقسيم سوريا، وبالتالي الاعتقاد السائد حالياً، هو أنّ أنقرة ستنضمّ إلى هذا التوجه في نهاية المطاف ، شريطة أن يتمّ منحها الشريط الحدودي بعمق 30 كم وعلى طول 900 كم مع سوريا.

واشنطن تهمّها بالدرجة الأولى إضعاف سوريا كدولة ، ومحاولة استبعاد أي منافس او خصم لتل أبيب في الشرق الأوسط مستقبلاً، بينما الحزام الأمني الذي بنته واشنطن حول تركيا، الهدف الأول والأخير منه ،هو منعها من التمدد، ولتبقى تحت السيطرة والتحكم، وهناك عشرات النقاط والمواقع الأمنية الأمريكية داخل تركيا، هي أيضاً تلعب دوراً كبيراً في التأثير على قرارها السياسي ،وخاصةً أنّ الجغرافيا التركية تعتبر بالنسبة لواشنطن خياراً استراتيجياً لا يمكن التنازل عنه، مهما كلّف الأمر، لاسيما وأنّ المنطقة تتجه شيئاً فشيئاً نحو التصادم الأمريكي الروسي غير المباشر في أوكرانيا ،ومحاولة ضبط ايقاعات ايران في المنطقة ،ومنعها من التلاعب بالتوازنات القائمة في الشرق الأوسط على حساب المصالح الاستراتيجية لتركيا في المنطقة ، فطهران وجّهت ضربة استباقية لواشنطن من خلال افتعال الوضع في غزة ،وكلّ هذه التطورات والتصعيد تدفع المنطقة برمتها نحو المواجهة المباشرة بين اللاعبين الكبار ،ومن المرجح أن تكون سوريا الساحة الرئيسية لهذا التصادم الدولي الإقليمي على المنطقة خلال المرحلة المقبلة ؛ لأنها أساس المشكلة، وحتى لو كانت عناوينها في غزة، لكن التفاصيل ستكون في سوريا، والأيام المقبلة ستكشف لنا الكثير حول ما يتمّ طبخه على نارٍ هادئة في الشرق الأوسط.

المقال منشور في جريدة يكيتي العدد “313”

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى