لماذا حزب أوجلان خارج السرب دائماً؟
جان كورد
أينما وكيفما نظرنا إلى الخارطة السياسية الكوردستانية، وفي مختلف المراحل، منذ تأسيس حزب السيد أوجلان، الحزب الذي سمىّ نفسه بالعمالي الكوردستاني لدى التأسيس، ولم يبقَ من كوردستانيته شيء، طوعاً واختياراً من قبل مؤسسه، أو مكرهاً من دون إرادته، لأسباب وظروفٍ تتعلّق باستراتيجية خيالية تحسب حساباتها لما بعد خروجه مستقبلاً من معتقله في جزيرة “عمرانلي” التركية، فإننا سنجد هذا الحزب خارج السرب القومي الكوردي والوطني في البلدان التي انتشر فيها والتي تقتسم أرض الكورد فيما بينها، وهي على التوالي (تركيا، إيران، العراق، سوريا، آذربايجان وأرمينيا).
فمنذ ظهور هذا الحزب ملفوفاً بالغموض حوله من حيث العلاقة مع أجهزة الدولة السرية للدولة التركية، باعتراف رئيس الحزب في مقابلاته وتصريحاته المدوّنة، نلاحظ أنه اعتبر الحركة التحررية الكوردية كلها “رجعية ومتخلّفة” ويجب تصفيتها يميناً ويساراً، فالمسيرة الطويلة لهذا الحزب لأكثر من ثلاثة عقودٍ من الزمن، وهي موّثقة بشكل جيد، ومعلنة بكل صراحة فيما تم نشره من كتب على أنها من تأليف السيد رئيس الحزب، عبد الله أوجلان، نجد حرباً سياسية على كل الأحزاب الكوردية، في سائر أنحاء كوردستان، وفي خارجها، سوى المؤسسة من قبله، حيث تكوّنت أحزاب وجمعيات وفعاليات سياسية وثقافية كوردية في مختلف أنحاء العالم. فهل يمكن لأي حزبٍ من أحزابنا إنكار هجمات “حزب العمال الكوردستاني!!!” عليه سياسياً؟، ومن تلك الهجمات ما رافقها من اغتيالاتٍ وطعناتٍ وضرباتٍ وإهاناتٍ وتهديدات للكوادر والقيادات، وحتى الشخصيات المثقفة والفنانين، بل وحربٍ شرسةٍ بقوة السلاح على بعض أحزابنا. إضافة إلى الانقضاض على مؤسساتٍ ثقافية وجمعياتٍ لا تعيق نضال حزب العمال ولا تستطيع ذلك أصلاً… ولم يكتفِ بذلك بل هاجم هذا الحزب أيضاً تاريخ أمتنا ورجالاتها الذين قدّموا حياتهم قرباناً لحرية شعبهم أو خدموا طوال حياتهم من أجلها وقضوا نحبهم وهم يحظون باحترام أمتهم…
رفض هذا الحزب منذ البداية أي تجمّع أو تحالفٍ أو جبهة لا تكون تحت قيادته لأنه اعتبر نفسه الطليعة البروليتارية في كوردستان، إلاّ أنه كان يهاجم الأحزاب الشيوعية والبروليتارية في البلدان التي تقتسم كوردستان أيضاً، ولكنه لم يعتبر نفسه طليعةً لحركة واحدة فقط هي حركة (أجيجيلر) التي كان نظام البعث السوري في عهد الرئيس حافظ الأسد يدعمها، لأنها كانت في سبيل “تحرير العلويين” في تركيا، بل كان العمالي الكوردستاني متحالفاً معها، وكان يهادن الكورد والسوريين البعثيين، والبعث حزب قومي عربي يساري، في الوقت الذي كان يحارب الأحزاب القومية الكوردية اليسارية…
معلومٌ أن حزب السيد أوجلان كان ضد (المؤتمر الوطني الكوردستاني) في البداية، وأتذكّر بعد عودتي من المؤتمر الأول الذي أنعقد في لندن في صيف عام 1989م وانتخابي فيه كعضوٍ للهيئة الإدارية للمؤتمر، أن السيد (ما شاء الله أوزتورك) قد خيّرني بين البقاء في الهبئة الإدارية لاتحاد المثقفين الوطنيين الكوردستانيين أو الاستمرار في المؤتمر الوطني الكوردستاني، على الرغم من أنني لم أكن عضواً في حزبه، واعتبر ذلك خروجاً على “الخط الثوري” لأن حزبه العمالي “لا يعترف بهذه المؤتمرات الرجعية”، فخط الثورة واضح (تحقيق المجتمع الأممي الصحيح) والهدف واضح (بناء الدولة الكوردية المستقلة) و(الكونفدرالية الشرق – أوسطية بقيادة (الباشقان: أي الرئيس)، وكل الأحزاب الأخرى “منحرفة” ولا حاجة للاعتراف بها، ولكني آثرت الاستمرار في المؤتمر الوطني الكوردستاني، رغم السلبيات التي رافقت تأسيسه وتصرفات بعض مسؤوليه غير الديموقراطية، وهذا ما وضعني في “القائمة السوداء” للكورد غير المرغوب فيهم أو “المعادين للثورة”…
ثم بعد أعوام هاجم الآبوجيون بالعصي والجنازير والسكاكين على اجتماعٍ حاشدٍ انعقد في عاصمة ألمانيا الاتحادية آنذاك (بون) في ظل الراية الكوردستانية وتحت شعار “خطوة أخرى صوب المؤتمر الوطني الكوردستاني” الذي كان العمالي الكوردستاني مدعواً إليه كحزب من الأحزاب الكوردية، وألقى ممثله كلمةً طويلة فيها، فداس “الرفاق” على العلم القومي لشعبنا وأحرقوه… ثم مرّت الأيام وتلقيت دعوة للمشاركة في النقاشات التي كان يجريها الحزب العمالي بنفسه في بلجيكا بصدد الإعلان عن “مؤتمر وطني كوردستاني” وكان له في ذلك هدفان:
-إبعاد الحزب الديموقراطي الكوردستاني عن المشاركة في المؤتمر مالم يقبل بالسياسات المطروحة من قبل الحزب العمالي و”حلفائه بحكم الضرورة المرحلية والولاء الإقليمي” في كوردستان.
-تسنّم رئاسة المؤتمر، حيث لا رئيس إلا السيد أوجلان ولا كوردستان إلا في ظله.
وأتذكّر أنني دافعت في مداخلتي حينذاك عن موقف “الحزب الديموقراطي الكوردستاني” حيال التحالفات الوطنية بشكلٍ عام والمؤتمر الوطني الكوردستاني بشكلٍ خاص، من دون أن أكون عضواً فيه، وهذا ما أزعج “الرفاق” تماماً، ودفع بهم إلى عدم نشر موقفي المثبت لديهم بكاميرا تلفزيونهم آنذاك.
ومعلومٌ أن الحزب العمالي قد أفشل وألغى مؤسسات ثقافية – سياسية لا لشيء إلاً لأنها ليست تابعة له، والمثال الذي أعرفه جيداً وعن قرب هو “المعهد الكوردي” في مدينة بون بألمانيا الاتحادية، وكان معهداً غير مرتبط بحزبٍ من الأحزاب، حتى أن “الرفاق” المناضلين من أجل “تحرير الكورد وتوحيد كوردستان” قد رموا بأرشيف المعهد في حاوية الزبالة، بعد أن سرق بعض الأنصار كتباً عديدة وهامة وأجهزة طباعة حديثة منه آنذاك، وذلك بذريعة أن الكورد ليسوا بحاجةٍ إلى مثل تلك الأرشيفات “الرجعية”… وهذا أقوله هنا للتاريخ كشاهد عيان تألّمَ ولا يزال يتألّم بسبب التصرّف هكذا بعنجهية وجهالة مع ما جمعه الكورد لذلك المعهد شهوراً وسنوات.
إن المحاولات المبذولة من قبل سائر الأحزاب الكوردستانية في شمال كوردستان لبناء “جبهة وطنية عريضة” تشمل كل القوى المؤمنة ب”حق تقرير المصير للشعب الكوردي”، وساهم في التحضير لها ممثلو الأحزاب المختلفة، ومنها (حزب العمال الكوردستاني، الحزب الاشتراكي الكوردستاني، حزب رزكاري، الحزب الإسلامي الكوردستاني، الحزب الشيوعي الكوردستاني… وشخصيات كوردية هامة) قد فشلت فيما بعد، على الرغم من توقيع الأحزاب على الوثائق والبرنامج لثلاثة أسباب:
– حزب العمال الكوردستاني كان يعتبر نفسه الطليعة والقيادة وعليه فإن الرئاسة يجب أن تكون للسيد أوجلان.
-التحالف مع سوريا (وهذا يعني الدخول في الحلف الإيراني اقليمياً والعداء للعالم الحر الديموقراطي عالمياً) يجب ألا يضعف.
– التصرّفات اللاديموقراطية والمضرّة بالشعب الكوردي وقضيته العادلة لأنصار حزب السيد أوجلان حيال مخالفيه ومعارضيه من أحزاب وشخصيات كوردستانية. وحيال المؤسسات التركية العامة والخاصة في الدول الأوروبية، حتى وصل الأمر إلى وضع اسم الحزب في قائمة “المنظمات الإرهابية” فيما بعد لتماديه في تلك التصرفات ومنها عقد محاكم صورية واغتيال منشقين عن الحزب والاستمرار في فرض الأتاوات على الكورد وإقامة المتاريس على الأوتوسترادات العامة والاستيلاء على مؤسسات بغرض الاحتجاج، وهذا ما أضرّ بالحزب قبل غيره، ولا يزال يعاني من جراء ذلك حتى الآن.
وسواءً في غرب كوردستان أو شرقها، فإننا نجد أمامنا سياسةً مغايرة من قبل حزب السيد أوجلان لسياسة معظم الأحزاب الكوردية الساعية للتحالف وبناء البيت الكوردي المشترك، وتجربة أحزابنا الوطنية الكوردية في سوريا لتحقيق الحد الأدنى من التشارك والتعاون فيما بينها اصطدمت ولاتزال تصطدم بسياسة “الغطرسة” و “الاستفراد” و “حب القيادة” لحزب الاتحاد الديموقراطي، المؤسسة السورية لحزب السيد أوجلان، وهو حزبٌ لا يختلف سوريان أو كورديان في أنه يخدم نظام الأسد بتصرفاته العنترية حيال الأحزاب الكوردية غير المتفقة معه على أسلوب إدارة المنطقة الكوردية منذ اندلاع الثورة السورية وغير المؤيدة لمواقفه حيال المعارضة الوطنية السورية، وعلى الرغم من انتهاج “سياسة النفس الطويل” لرئاسة إقليم جنوب كوردستان حيال هذا الحزب، وإرساله البيشمركه إلى مدينة (كوباني) دعماً لصمود مقاتليه في وجه هجمات (داعش)، فإن استمرار التعاون أو بناء تحالفٍ وطني ديموقراطي كوردي في غرب كوردستان، بدعمٍ من قيادة الإقليم أو من دونه، فاشل في هذه المرحلة ولربما مستقبلاً أيضاً.
وعليه، لا بد من طرح سؤالٍ هامٍ في آخر هذا السرد التاريخي الذي لابد منه ولا يمكن القفز من فوقه، كما يحلو للأنصار الآبوجيين غض النظر عن كل ما جرى بذريعة أن (هذا من ثلج البارحة):
-لماذا يُفشِلُ حزب السيد أوجلان كل المحاولات لبناء جبهة وطنية عريضة في سائر أنحاء كوردستان وخارجها؟
آمل أن يجيب الإخوة الناشطون من مختلف الاتجاهات السياسية عن هذا السؤال الذي قمت بالتمهيد له، ولو باختصار. وآمل أن تكون المناقشة على مستوىً رفيع من الحوار السياسي – الثقافي، فالقضية ليست مجادلة بين شخصين، أو كتلتين سياسيتين، وإنما مسألة هامة متعلّقة بشعبنا وكفاحه من أجل الحرية، وبخاصة فإننا نمرّ في مرحلةٍ تكالب العنصريين من حولنا لمواجهة أي اتفاقٍ أو تعاونٍ لقوى شعبنا المظلوم، وأعتقد أنه بعد هجوم الإرهابيين على الكورد وكوردستان، يجب بالضرورة، رغم كل العوائق والتحديات، بناء جبهةٍ كوردستانية واسعة تضم سائر الطاقات والإمكانات اللازمة لمتابعة مسيرة الإنجازات الوطنية وتحريك قضيتنا دولياً والتقدّم خطوةً أخرى صوب الأهداف القومية العادلة في شرق- أوسطٍ أشبه بمستنقعٍ امتلأ الآن بالدماء الزكية للشهداء، ومنها دماء شهداء شعبنا.