آراء

لمحات من صفات البارزاني القيادية “الحلقة الرابعة”

محمد زكي أوسي

إنّ الصفات التي تحلّى بها البارزاني الخالد, ذات تركيب استثنائي: (فهو استثنائي العدالة والشجاعة, الحمة والصبر, استثنائي النظر إلى بواطن الأمور وتحليل ظواهرها واستقراء الماضي واستشراف المستقبل, استثنائي في قناعاته الراسخة, من أنّ الحياة هي موقف).

إنّ أشدّ ما يلفت الانتباه عند قراءة سيرة البارزاني ووقائع حياته, هو ذلك الحسّ الإنساني الذي كان يعتمر في نفسه إزاء أبناء شعبه, وإنّ أشدّ ما كان يؤلمه ويثيره, هو وصف بعض الكتّاب والسياسيين غير الموضوعيين, حركة الشعب الكُردي الوطنية بأنها (متمرّدة, عشائرية) وغيرها مما يدلّ على الضحالة السياسية والتعالي عن رؤية الحقائق.

وفي الحقيقة أظهر كلّ ما تقوى عليه طاقة البشر من الصبر والحلم وسعة الصدر, كي لا يُتّهم بالخروج عن المسلك الصحيح, أما في صدد دفاعه عن الشعب الكُردي ، وكيف يتمّ تشويه تاريخه وإنكار وجود لغةٍ وأدبٍ له، فيقول: (إنّ ما كُتب إلى الآن عن الكُرد, لا يمثّل إلا عشرة في المائة من الحقيقة, إنّ الذي يكتبونه ليس وحياً نازلاً من السماء، وإنما من وحي مخيلتهم المريضة), ويضيف قائلاً: (هذا الشعب حيٌّ وسيبقى حياً خالداً رغم كلّ ما يُرتكب بحقه من وحشية وقمع).

ملامحه القيادية:

أولاً- وضوح الأهداف: تميّز بكلّ الوضوح في طرح أهدافه, بعيداً عن التطرف والتعجيز والتناقض وكان سبّاقاً إلى استيعاب الواقع والحقائق وروح العصر والظروف الداخلية والإقليمية والدولية, وكان يؤكّد دائماً أنّ الكُرد حملوا السلاح لأجل حياةٍ أفضل وحقهم المشروع يقول: (نحن شعبٌ جائعُ عارٍ, لا صناعة عندنا ولا أي شيء إننا فقراء نعيش فوق منطقة مليئة بالخيرات, وإنّ هدفي لآخذ بيد شعبي إلى عيشةٍ مستقرة آمنة).

ثانياً: قائد متواضع: شخصية من طراز فريد قلّ له نظراء, مهذب, متواضع, ذو هيبة ووقار, حكيم, جدي في العمل, عالي الثقة بالنفس, صلب, صارم, كريم رصين في كلّ الظروف, يمتلك ذهنية سياسية متطورة جداً يتغلغل بها إلى الأعماق وصولاً إلى النتيجة النهائية, ومن تواضعه كرهه أن يُسمّى قائد الثورة ورأسها المفكّر وزعيمها السياسي وقائدها العسكري والمتحدّث بلسان الشعب الكُردي يقول: (كلا إني لا أمثّل الإرادة العامة, لا استطيع القول إني أنطق بلسان حال الكُرد, إني لست جسم الثورة, الشعب هو جسم الثورة ودافعها).

وكان يرفض تقديسه والتصفيق له وخلع الألقاب الأسطورية عليه يقول: (أنا لست جنرالاً, أنا مصطفى لا غير, إنني لا أهتمّ قدر قلامة ظفر بالألقاب, أنا لست إلا فرداً من الشعب الكُردي, وأنا خادم الكُرد وابن الكُرد). وكان يعترف بأنه لم يضع النواة الأولى للحركة الكُردية, وتطورها, بل استلم الراية ممن سبقوه من الثوار الكُرد وقادتهم السابقين وكان يشيد بنضالهم, وتضحياتهم مثل الشيخ محمود الحفيد 1956م.
– البساطة في المأكل والملبس والسكن وعدم التميز عن أخوته ورفاق دربه وبيشمركة كُردستان في شيء.

ثالثاً: حبه اللامتناهي للمعرفة والتعلم: رغبته الصادقة والجامحة في العلم والمعرفة لا توصف, كان يودّ الاطلاع على مختلف الثقافات والعلوم والمعارف, إلا أنه كان يرى في التاريخ ودراسته شرطاً هاماً لرفع الوعي القومي وحافزاً لنهضة الأمة, وشهد له زملاؤه ومدرّسوه بشغفه الكبير في تلقي الدروس والتحصيل العلمي وأنه يمتلك ذكاءً وقدرة فارقة على الفهم والاستبعاب, وليس أدلّ على حبه للعلم والمعرفة مثل جلوسه في الخامسة والأربعين على مقعد الدراسة عندما كان لاجئاً في الاتحاد السوفيتي (1947 – 1958)م وتشجيعه لرفاقه على التعلم وطلبه من السوفييت بإفساح المجال أمامهم وخاصةً, التاريخ – الجغرافية – العلوم السياسية والاجتماعية.

رابعاً: كرهه للثروة والمناصب: البارزاني الخالد زاهدٌ في الدنيا وعازف عن جمع المال, كان يرى أنّ الرغبة في جمع المال تمتصّ من الإنسان كلّ الصفات الحميدة, ومن هنا كان لا يقرب إليه ذوي النفوس الخسيسة وإن التحقوا بالثورة, وفي 10/10/1964م قدّم أبرز المفاوضين حول وقف إطلاق النار له مبلغاً من المال رفضه, بل قام بتوزيعه على المحتاجين من المقاتلين, وعندما سُئل عن السبب قال: (لقد حاولت وما أزال إبعاد الثورة والمقاتلين عن المال, ولأنه لا شيء يفسد المقاتلين وقادة الثورات مثل المال, أبعدوه فإنه يفسد الثورة). ثم قرأ هذا البيت من الشعر:
أيها المال لست رباً معبوداً ولكنك قاضي الحاجات وستّار العيوب
ولم يطمح البارزاني في حياته قط لمنصبٍ له ولا لأولاده, لكنه كان يطلبها لرجاله ومناضليه وإلى إدراكه العميق في معالجة مختلف الموضوعات, تعود شهرته وتعلق الكُرد به, على حد قول جميع مفاوضيه.

خامساً: بُعدُ النظر لدى البارزاني:
1- قناعة البارزاني الخالد هي أنّ القوى الكبرى هي التي تقرّر مصير الأحداث إلى حدٍ كبير وهذا ما لازمه طوال مدة نضاله لذا كان يهدف إلى جلب أنظارها إلى قضية شعبه وعدالتها يقول: (لقد تحمّل الشعب كثيراً من المشاق والمآسي وليس هناك من يقف إلى جانبنا ويساعدنا في محنتنا).
2- كان يعمل جاهداً لتدخّل الأمم المتحدة لحلّ قضية الشعب الكُردي: (نرجو مساعدتنا على إيصال شكوانا إلى منظمة الأمم المتحدة واستنكارنا لسياسة القمع التي تمارسها بحق الشعب الكُردي أربع حكومات هي: (تركيا – إيران – العراق – سوريا), لتمزيق القناع عن وجوه هذه الحكومات وتظهر للعالم أجمع مأساة شعبنا الكُردي التي لا تعادلها مأساة ولا تحمّلها أي شعب.
3- اعتقاد البارزاني أنّ من الصعب إحراز النصر بمعزلٍ عن الاتحاد السوفييتي أو أمريكا أو كلاهما معاً وعلى هذا صرّح قائلاً: (إنّ آلافاً قُتلوا في كُردستان, وهناك آلافاً ينتظرون المصير نفسه, إن لم تفعل الأمم المتحدة شيئاً, إني أسأل العون من كلّ إنسان يؤمن بالعدل).

ومن هذا المنطلق وافق البارزاني على وقف إطلاق النار في 8—1963م – وفي 10-2-1964م, و وافق على التفاوض استجابةً لرغبة أمريكا التي وعدت بالنظر في القضية الكُردية, وطالب أن تكون المفاوضات (1964)م أمام أنظار سفراء أمريكا والاتحاد السوفييتي ومصر وأن يكون الكلام أمامهم على حدّ قوله.

وقد سبق البارزاني غيره في التعرف على الشرق والغرب وتقييمه لهما, وتعامله مع دول الجوار, لقد بقي في كلّ الأحوال كُردياً في تعامله مع الآخرين آخذاً مصلحة الأمة الكُردية بعين الاعتبار, أي أنه كان يعمل صادقاً جاهداً للقضية الكُردية والأمة الكُردية هو ومن قبله من آبائه وأجداده وأخوانه ومن بعده أولاده وحفدته وليس عميلاً للشرق أو للغرب أو إيران أو تركيا أو غير ذلك, إنّ أهم ما أخذ عليه الحاقدون هو المصير الذي آلت إليه ثورة أيلول المجيدة, ولم يدروا أنّ ذلك نتيجة مؤامرة دولية دنيئة تمثّلت في اتفاقية الجزائر المشؤومة (6-3-1975)م, وبرعاية دولية شرقية وغربية ونسي هؤلاء أنّ كلّ ثورة لا بد وأن تتعرّض لانتكاسة من قبل الثورة المضادة ومصالح الآخرين, إنّ البارزاني فضّل النار على العار, فضّل التشرد ومواصلة النضال والصبر على المساومة بالأرض الكُردية والكرامة القومية.

المقال منشور في جريدة يكيتي العدد 305

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى