آراء

ماهية الدستور والأحكام والقواعد الواجبة تضمينها

موسى موسى

إنّ الوقوف على ماهية الدستور، و تحديد مدلوله، من أهم المواضيع التي لا بدّ من فهمه، ليكون بمقدور واضعي الدستور أو الجهات المختصة بوضعه أو المشرّع أو حتى الشرّاح من تضمينه بأحكام وقواعد ضرورية في حالة الدساتير المدوّنة.

والشعب السوري عامةً وأعضاء اللجنة الدستورية خاصةً أحوج إلى هذه المعرفة في الوقت الذي تجتمع تلك اللجنة في مدينة جنيف السويسرية بتيسيرٍ من الأمم المتحدة والذي أعلن الأمين العام للأمم المتحدة السيد “انطونيو غوتيريش” في ٢٣ أيلول ٢٠١٩ عن تشكيل لجنة دستورية لإقرار دستور جديد لسوريا تضمّ ممثلين عن الحكومة السورية وممثلين عن المعارضة وممثلين عن المجتمع المدني. ومقصدنا من مدلول (الدستور) هنا ليس معناه اللغوي، وإنما معناه الاصطلاحي، وذلك لوجود الاختلاف بينهما، ولَم يبخل الفقهاء من العمل جهداً على تحديد المدلول الاصطلاحي لتعبير الدستور، فانطلق بعضهم الى النظر “بالشكل” الذي يعتمد على نص الوثيقة الدستورية، أي الشكل الخارجي للقاعدة والجهة التي أصدرتها، واعتبار كلّ قاعدة واردة فيها هي قاعدة دستورية حتى لو كانت من حيث طبيعتها وجوهرها قاعدة غير دستورية، وما لم يورد فيها لا تعتبر قاعدة دستورية، وبمقتضى هذا المعيار( المعيار الشكلي) فإنّ الدستور هو ” مجموعة القواعد والأحكام التي تتضمّنتها الوثيقة الصادرة عن السلطة المختصة بذلك وبإجراءات خاصة تختلف عن تلك التي تتبع في شأن القوانين العادية التي تصدر من المشرع العادي”.

وإذا كان مزية المعيار الشكلي حسب أغلب الفقهاء بشأن تعريف الدستور هو البساطة والوضوح، فإنّ عيوبه الكثيرة جعل من مناصري هذا المعيار أيضاً من هجره- ناهيك عن منتقديه- وتبني معيار موضوعي لمعرفة مدلول وماهية ” الدستور” نتيجة عيوب المعيار الشكلي التي تتمثّل في إنكار وجود دستور في الدول التي لا يوجد فيها دساتير مكتوبة مثل إنكلترا، حيث أنّ عدم وجود وثيقة دستورية مكتوبة بما يتضمّنها من أحكام وقواعد في إنكلترا لا يعني عدم وجود دستور لها، حيث تحكمها قواعد واحكام دستورية عرفية.

كما أنّ من المسلّم به في الفقه الدستوري إنّ كلّ دولة لها دستورٌ يبيّن ويوضّح طبيعة الدولة ونظام حكمها، وينظّم سلطاتها وصلاحية كلّ سلطة والعلاقة فيما بينها، ولا يشترط في ذلك أن يكون الدستور مدوّناً أو عرفياً، إضافةً أنّ المعيار الشكلي لا يقدّم تعريفاً شاملاً للدستور في الدول التي تتبنّى الدساتير المكتوبة، حيث الكثير من دساتير الدول المكتوبة لا تتضمّن وثيقتها الدستورية جميع القواعد الدستورية، فثمة قواعد دستورية تجد مصدرها في العرف الدستوري لا في وثيقة الدستور، كما في العراق يكون رئيس الجمهورية كُردياً ورئيس مجلس النواب سنياً ورئيس مجلس الوزراء شيعياً، وفي لبنان أن يكون رئيس الجمهورية مارونياً ورئيس مجلس النواب شيعياً ورئيس الحكومة سنياً، وبالمقابل فإنّ وثيقة الدستور قد تعطي بعض القواعد غير الدستورية بطبيعتها صفة القاعدة الدستورية، وهناك أمثلة كثيرة كما في سويسرا حيث يحظر دستورها ذبح الحيوانات حسب الشريعة الإسلامية واليهودية، وكتضمين الدستور السوري للتقسيمات الإدارية وفي مصر كتنظيم بعض المجالس، كما أنّ إغفال الوثيقة الدستورية لبعض المسائل التي تعدّ دستورية في جوهرها عيب من العيوب التي شاب المعيار الشكلي كتلك التي تحيلها بعض مواد الدستور الى قانون كتلك التي تنظّم قواعد وأحكام الانتخابات التي يحيل الدستور تنظيمها بقانون كقانون الانتخابات وقانون تنظيم عمل الأحزاب، كما أنّ اختلاف الواقع القانوني عن الواقع العملي المختلف عن الوثيقة الدستورية أيضاً يشكّل عيباً من العيوب التي اعترت المعيار الشكلي إضافةً إلى اختلاف الوثيقة الدستورية المسماة ” بالدستور” من دولةٍ الى أخرى ومن زمنٍ الى زمن، أدى بالنتيجة الى عدم قدرة ذلك المعيار من وضع تعريف واضح للدستور، لذلك استند غالبية الفقه الدستوري إلى ضوابط ومعايير أخرى تستند إلى طبيعة وجوهر القواعد الدستورية وليس إلى شكلها، لذلك كان المعيار الموضوعي لتعريف الدستور المنصبّ على مضمون القاعدة دون النظر إلى شكلها والجهة المصدرة لها، والدستور بحسب هذا المعيار يعني الموضوعات التي تعدّ دستورية من حيث طبيعتها سواءً وردت في الوثيقة الدستورية( الدستور) أو لم ترد فيها، وإنما تقرّرت بمقتضى عرف دستوري أو وردت في قوانين عادية.

وعلى هذا الأساس يرى غالبية الفقه بأنّ لكلّ دولةٍ دستور، ولا يتصوّر أن لا يكون لكلّ دولة قواعد وأحكام تتعلّق بالدولة ونظامها وسلطاتها وصلاحيات كلّ سلطة والعلاقة فيما بينها، فوجود دستور للدولة غير مرتبط بأن يكون مكتوباً أو غير مكتوب، ولهذا فإنّ بريطانيا أيضاً تملك دستوراً ولو لم يكن مكتوباً في أغلبه وإنما يتمثّل في مجموعة القواعد التي تقرّرت بمقتضى العرف والقوانين العادية إضافةً إلى عددٌ من الوثائق الدستورية التي بدأت منذ عام ١٢١٥م، وفي الدول الاتحادية فإقليم كُردستان في العراق مازال دستوره غير مكتوب، ولكن هناك قواعد وأحكام دستورية تنظّم سلطات الإقليم وصلاحياتها وغيرها من القواعد الضرورية عرفاً وبعضها قانوناً. كما واتجه غالبية الفقه إلى اعتبار الحقوق والحريات أيضاً من المواضيع الدستورية إضافةً إلى المبادئ الاقتصادية والاجتماعية والسياسية للدولة التي من الواجب تضمينها في الدستور، ويستوي في الدستور أن يكون عرفياً، أو مكتوباً في وثيقة واحدة أو وثائق متعددة كما في دستور دولة البحرين الذي يحتوي على ثلاث وثائق دستورية.

المقالة منشورة في جريدة يكيتي العدد 295

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى