من الصحافة العالمية

مجهولو النسب في سوريا “الرصيف أحن عليهم”

حازت العاصمة دمشق أعلى نسبة للأطفال مجهولي النسب في سوريا خلال عام 2023، تليها حلب، ثم بقية المحافظات مع بعض الاستثناءات.

تتنامى تباعاً ظاهرة الأطفال مجهولي النسب خلال الحرب السورية، تلتقيهم في الطرقات وعلى أبواب المساجد والكنائس والمستشفيات، وتعج بهم مختلف مناطق البلاد.

وعلى رغم ذلك يؤكد رئيس هيئة الطب الشرعي في سوريا زاهر حجو، وجود 19 طفلاً مجهول النسب خلال الربع الأول من العام الحالي فحسب، مقارنة بـ103 مجهولي النسب في عام 2023، جميعهم عثر عليهم بطرق مشابهة، بعد إلقائهم في الطرقات، وأعمارهم بالأيام أو الأشهر، وذلك في مناطق سيطرة حكومة دمشق.

أشار حجو إلى أن مجهولي النسب في 2023 توزعوا بين 69 ذكراً و34 أنثى، وكانت حصة دمشق الأعلى منهم بـ 34 طفلاً، تليها حلب، ثم بقية المحافظات التي يستثنى منها القنيطرة وريف دمشق واللاذقية والسويداء التي لم تسجل أية حالات.

 

تفكك أسري

وقف مدير الشؤون الاجتماعية والعمل في سوريا إسماعيل خليل على جملة أسباب تؤدي إلى تزايد أعداد مجهولي النسب في البلاد، من بينها “الحالة الاجتماعية السيئة السائدة بوصفها المسبب الأول والأخير ويضاف إليها غياب الوعي والتفكك الأسري إلى جانب الفقر المدقع الذي يشكل جزءاً محورياً ولاعباً أساساً في هذا الملف”.

وقال خليل في حديثه لـ”اندبندنت عربية”، “لدينا أيضاً ملف الزيجات المختلطة ما بين الداخل والخارج وتملص الزوج أو الزواج الداخلي وهرب الزوج أو اختفاؤه أو توجهه لمناطق خارج السيطرة الحكومية لسبب أو لآخر، فتجد السيدة نفسها وحيدة بلا سند ومعيل ومرغمة على التخلي عن طفلها الذي لن تستطيع أن تعيله وتربيه وتنشئه”.

يعتقد مدير الشؤون الاجتماعية، وهي الجهة الأولى التي تعنى بالملف نظراً إلى تبعيتها لوزارة الشؤون الاجتماعية والعمل أن مكافحة هذه الظاهرة صعبة للغاية وتتطلب جهوداً فوق الحد المتاح، وكل ذلك يبدأ من الوعي الجمعي الشامل من الجذور تمهيداً لمعالجة الأسباب لا النتائج.

وختم إسماعيل حديثه بالإشارة إلى أنه بمعالجة الواقع المرئي في ظل وجود هذه الحالات فإنه أيضاً من الممكن تسهيل اندماج هؤلاء الأطفال بتربيتهم وتقويمهم بين المياتم سابقاً ومشروع “لحن الحياة” الجديد الذي صار الجهة الوحيدة المعنية بهم ويتم ذلك بشكل جيد وانسيابي ومهني وأخلاقي، مضيفاً “حالياً لا يتخلى عنهم حين بلوغهم الـ18 سنة، بل يمكنهم البقاء حيث تربوا، ومتابعة تحصيلهم العلمي، وما إلى ذلك”.

 

إجراءات متبعة

وحول الآلية التي يجري التعامل بها مع حالات الأطفال مجهولي النسب الذين يعثر عليهم من دون إثبات شخصية، أوضحت رئيس دائرة الخدمات في الشؤون الاجتماعية سجى بهادر، أن “طرق العثور على هؤلاء الأطفال تتنوع، لكن غالباً والصورة الأبرز يكون من طريق بلاغ من سكان وأهالي المنطقة عن وجود طفل رضيع وحده في مكان معين، ثم يتحول الأمر إلى إبلاغ قسم الشرطة الأقرب ثم الإسعاف، ويجري نقل الطفل إلى المستشفى الأقرب للاطمئنان على صحته وإجراء الفحوصات الدورية له”.

وتابعت “في هذه الأثناء تتولى مديريات الشؤون الاجتماعية في المحافظات تأمين مستلزمات الرضيع والمتابعة مع المستشفى ريثما تستكمل الشرطة تحقيقاتها لمعرفة هوية الطفل، وفي حال تعذر معرفة أهله يقفل الضبط الشرطي، ويوجه كتاب إلى الهلال الأحمر لتسلم الطفل والتوجه به وتسليمه أصولاً إلى دار لحن الحياة باعتبارها الجهة النهائية المسؤولة في متابعة الطفل ومقرها في ريف دمشق”. وأرجعت انتشار هذه الظاهرة إلى غياب الوعي والفقر والجهل والبطالة ووقوع المرأة ضحية زواج غير منتظم وواضح، مضيفة “الزواج البراني (العرفي) كارثة مثلاً وسبب مباشر، ويجب على المشافي عدم توليد المرأة من دون وجود والد الطفل مهما كان الظرف، إضافة لكل تلك الزيجات غير الشرعية وما يتبعها من تحايل، وما يحصل هو الآن بازدياد”.

حقوق الضحايا

في مطلع عام 2023 صدر مرسوم تشريعي بعد سنوات عدة من التداول في مجلس الشعب (البرلمان السوري)، ليخلص المرسوم إلى استحداث بيوت “لحن الحياة” ومقرها في ريف دمشق، لتكون الجهة النهائية والمثلى والكبرى لتولي شؤون هؤلاء الأطفال وتنظيمها ورعايتها.

ويقول نص المرسوم الرئاسي الذي صدر حينها، “يعني المرسوم بتهيئة الظروف الملائمة لمجهول النسب وتوفير البيئة الداعمة لتربيته وتعليمه وضمان تمتعه بجميع الحقوق والحريات من دون تمييز عن أقرانه، وكذلك ضرورة حماية الأطفال مجهولي النسب من الاستغلال والإهمال والحفاظ على مصالحهم”.

قال مصدر سوري مطلع على عمل بيوت “لحن الحياة” إنها باتت اليوم بديلاً من المياتم بوصفها جهة وحيدة وفريدة وقادرة ومتمكنة وناظمة بصورة مهنية وفعلية لرعاية شؤون مجهولي النسب، وبناءً عليه حققت خطوة متقدمة يمكنها تغيير مصير أولئك الأطفال عبر تسجيلهم بالأحوال المدنية واستصدار وثائق رسمية لهم تثبت وجودهم الشرعي باعتبارهم مواطنين بعيداً من كونهم كما كانوا سابقاً (مكتومي القيد)”.

المصدر الذي فضل عدم ذكر اسمه لأسباب أرجعها لحالة الهدوء المطلوب أن تحيط بعمل ذلك المشروع دائماً، أضاف “’لحن الحياة‘ يراسل الأحوال المدنية (النفوس) ويزودها الاسم الأول المختار من قبلهم للطفل مجهول النسب، ومن ثم تمنح الأحوال المدنية الطفل شهادة هوية كاملة تتضمن اسم أب وأم وكنية (وهميين)، ولكن يجري اعتمادهم أصولاً ليتمتع الطفل بحقه باعتباره مواطناً حين يكبر”.

ومشروع “لحن الحياة” يتولى عملياً رعاية الطفل وتأمين انخراطه في الحياة الطبيعية وحصوله على حقوقه المدنية حتى الـ18 سنة، وبعدها يمكنه البقاء والعيش في الدار والعمل أو الدراسة الجامعية، لكن وفق نظم وشروط وقوانين معينة تضعها الدار وتخضع لاتفاق واضح بين الطرفين.

والأهم في هذا المشروع أنه أعاد لهؤلاء الأطفال (الضحايا) كامل حقوقهم المدنية والسياسية والاعتبارية ومنحهم بطاقات شخصية مدنية لا يمكن تمييزها عن سواها ليحررهم من عباءة “القيد المكتوم” والحرمان المدني أو السياسي المحتمل.

 

صراع برلماني

يعرف القانون السوري مجهول النسب بأنه “كل وليد يعثر عليه ولم يثبت نسبه أو لم يعرف والده ولا معيل له، وكذلك المولود من علاقة غير شرعية وإن كانت والدته معروفة”.

وكانت سنوات احتدام الصراع البرلماني الماضية في سوريا حول إصدار قرار لمجهولي النسب حافلة بوجهات نظر فريقين، الأول يعتقد أنه ضرورة إنسانية ملحة لا تحتمل الانتظار بمعزل عن الظروف المحيطة، والثاني يعتبرها تشريعاً لتوثيق أطفال يتحدرون من مقاتلين مناوئين للسلطة وصلت أمهاتهم إلى الداخل السوري عبر سلسلة التسويات بين المناطق، وبذلك يكون تشريع هؤلاء الأطفال قبولاً بـ”إرهاب آبائهم”، ليخسر أخيراً الطرف الثاني لحساب الفريق الأول.

 

إشكاليات أخرى

يتدخل المحامي السوري مهيب زرقة ليؤكد أن “أكبر كارثة تفضي لمجهولي النسب هي الزواج (البراني) الذي لا يوثق بالمحاكم على رغم أن شيخاً (يعقده)، لكن من دون تسجيل رسمي، مما يتيح إمكانية أكبر لاختفاء الزوج أو تنصله من مسؤولياته، وهو ما كانت عليه الحال لسنوات طويلة خلال الحرب والحصار والظروف المختلفة”. وتابع، “لدينا كارثة كبرى هي ملف ’داعش‘ وآلاف الزيجات قبل أن يختفي المتزوجون بتلك السيدات لدى القاضي الشرعي في أماكن وجودهم السابقة، أو تقتلهم عناصر التنظيم، وتلك النسوة الآن لديهن أبناء من آباء غير معروفين أو آباء أجانب وتلك قضية أخرى أكثر تعقيداً ومخيم الهول شاهد على كمية الأطفال بلا آباء وهذا ملف شائك سيحضر في وجه سوريا عاجلاً أم آجلاً”.

وأشار إلى جانب آخر يعتقد أنه مقلق أيضاً، وهو وجود الأب والأم معاً، ومع ذلك يتخليان عن الطفل بعد ولادته لعجزهما عن رعايته، معيداً ذلك لقلة الوعي والإدراك الذي يكبد الجهات الاجتماعية مسؤوليات تفوق طاقتها.

وأوضح مهيب أن التبني لا يجوز قانوناً في سوريا لمخالفته نصوص الشريعة الإسلامية، فيما تكون الرعاية مسموحة بطرق متعددة على ألا يسجل الطفل باسم عائلة أخرى وألا يرثها، وبوجود دور محددة معنية بهؤلاء الأطفال لم يعد موضوع التبني مهماً ما دام أن هناك مؤسسة كاملة تؤمن له كل حاجاته وترعاه صغيراً ويافعاً وكبيراً.

 

اندبندنت عربية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى