محنة الاعتدال في مواجهة بركان التطرف
د. عبدالباسط سيدا
حالة التجييش الطائفية التي تشهدها المنطقة هي في طريقها إلى الذروة من جهتي الانتشار والتشدد. وهي حالة كارثية تتجسد في القتل العبثي اليومي وبأبشع الأساليب وأكثرها إثارة للاشمئزاز والأحقاد.
وتتمحور الحالة المعنية حول إشكالية مستعصية، مسدودة الآفاق، تتمثّل في توظيف أطراف النزاع قراءاتها الخاصة بها للماضي الديني من أجل بلوغ أهداف دنيوية على صعيد المصالح والتوجهات.
ويُشار ضمن هذا السياق إلى المشروع الإيراني الحريص على استخدام المذهب للوصول إلى أهداف سياسية، لتكون هذه الأخيرة مقدّمات جديدة لجهود مذهبية المظهر، سياسية المبتغى؛ وهكذا تتابع حلقات المشروع المحكم، المنضبط بإرادات المشرفين عليه، المتحكّمين فيه.
وفي مقابل هذا المشروع الإيراني المنظم، يقوم لا – مشروع يلتحف بالرداء السني، لا يرتقي إلى مستوى ركام مشروع. لا – مشروع اتخذ من التطرف بأقسى وأبشع حالاته، وأكثرها بدائية وهمجية، وسيلة لبلوغ أهداف غير واضحة المعالم. ومع ذلك تمكّن هذا اللامشروع من استقطاب أوساط واسعة من المكوّن العربي- السني لأسباب عدة، منها الشعور بالقهر والتهميش بخاصة في العراق وسورية؛ ومنها عدم الرضا عن سياسات الحكام الداخلية منها والخارجية، بخاصة من جهة عدم القدرة على اتخاذ مواقف حازمة من المشروع الإيراني. هذا إلى جانب الشعور بحالة من التناغم بين مآلات الإستراتيجية الأميركية الأوبامية، والاندفاع الإيراني غير المسبوق في المنطقة وخارجها.
ويبقى سبب آخر يفسر هذه الداعشية المقنعة بين الأوساط السنية العربية تحديداً؛ ربما لا يقل أهمية عن الأسباب الأخرى، يتجسد في ضعف الاتجاهات الإسلامية المعتدلة. لذلك لم تتمكن من تقديم البديل المقنع الناضج القادر. بل دخلت في علاقة تضايفية مع التنظيمات المتطرفة. فهي خسرت من ناحية جزءاً كبيراً من حاضنتها الاجتماعية – بل من أعضائها المنظمين أيضاً – لمصلحة هذه الأخيرة. ومن ناحية أخرى، راهنت الاتجاهات المعنية – على الأقل في عقلها الباطن – على النجاحات الميدانية لقوى التطرف، معتقدة، إن لم نقل متوهمة، بأنها بفضل خبرتها وتاريخها وعلاقاتها ستتمكّن من توظيف النجاحات المعنية لمصلحتها. وستقدّم نفسها بوصفها البديل المقبول دولياً، الأمر الذي سيمحنها فرص الحصول على مواقع متقدمة في الترتيبات المستقبلية للمنطقة، بخاصة في سورية والعراق. ولكن الذي حصل تجسّد في خلاصات عكسية، ساهمت في بلورة موقف مناهض للإسلام السياسي برمته، ومن دون أي تمييز بين معتدل ومتطرف وبين بين، وذلك طالما أن الجميع يعوّل على ما سينجزه التطرّف، ليبني عليه ما يتسق مع مشروعه الخاص.
وفي هذا المجال، لا بد أن نتوقف عند تجربة جماعة «الإخوان المسلمين»، كونها الحركة الأكثر قدماً وخبرة وتجربة بين الحركات الإسلامية في المنطقة بأسرها. فهذه الحركة أعادت النظر في مشروعها أكثر من مرة، ووصل بها الأمر في سورية إلى القبول بمشروع الدولة المدنية الديموقراطية التعددية، الذي يقوم على أساس احترام حقوق وخصوصيات سائر المكوّنات المجتمعية، سواء المذهبية – الدينية منها أم القومية أم الفكرية، ومن دون أي تمييز.
ولكن الحركة المعنية لم تتحرر – مع ذلك – من عقدة المراهنة على حصيلة عمل الجماعات المتطرفة، بل حاولت في معظم الأوقات التواصل مع بعضها، والاتفاق معها حول قواسم مشتركة. كما تابعت جهود جماعات أكثر تطرفاً – داعش نموذجاً – وأبدت في الظاهر عدم الرضا عن سلوكياتها، ونتائجها الواقعية على الأرض؛ ولكنها في الوقت ذاته أعلنت عن عدم موافقتها على الجهود الدولية التي استهدفت الجماعات المعنية؛ بخاصة بعد كل ما أقدمت عليه بحق السكان من مختلف المكوّنات في سورية والعراق؛ متكئة في ذلك على مطلب مشروع، يتمثّل في ضرورة وجود استراتيجية متكاملة تعالج الوضع في مجمله، وتضع الأمور في سياقها الطبيعي، وتتعامل مع الإرهاب الداعشي بوصفه نتيجة، أدت إليها المقدمات التي تجسّدها استراتيجية النظام وجرائمه في مواجهة ثورة الشعب السوري.
وقد استغل بعضهم ممن يجهلون طبيعة العوامل المحرّكة الفاعلة ضمن الخصوصيّة المجتمعيّة في المنطقة، ويبحثون عن حلول بسيطة تتناسب مع النماذج التي ينطلقون منها، وضعية الاختلاط هذه، ليخرجوا علينا بخلاصات لا تعكس طبيعة الوقائع، بقدر ما تعكس تسرّع المنطق الرغبوي الموجّه لتفكيرهم، المتحكّم بطبيعة تصنيفاتهم، فتقدّم الأمور وكأن هناك صراعاً بين ما هو ديني وما هو علماني، في حين أن الصراع الأساسي هو في حقيقته بين الاستبداد القاتل الإفسادي، وسائر المكوّنات والتوجهات الأخرى من مذهبية – دينية، وقومية، وفكرية، وغيرها.
وبمناسبة تناول هذا الموضوع، نودّ التوقف قليلاً عند التغييرات الأخيرة التي جرت ضمن قيادة جماعة «الإخوان المسلمين» في سورية، فما نأمله بأن تكون هذه التغييرات مقدمة لنقلة نوعية في عمل الجماعة، تتحوّل بموجبها إلى حزب سياسي وطني، يستلهم التعاليم الإسلامية أكثر من كونها جماعة دعوية إرشادية ترتبط مع الجماعات الإخوانية الأخرى بروابط تقيّدها، وتلزمها أحيناً بسياسات لا تتوافق معها، ولا تلقى قبولاً من قبل أعضائها، ولا تأييداً ضمن أوساط حاضنتها الاجتماعية.
جماعة «الإخوان المسلمين» في سورية على وجه التحديد، مطالبة بإحداث تحوّلات فكرية في توجهها السياسي، تقطع بموجبها مع النزعات الماضوية المتكلّسة، بوجهيها الديني الجامد، والقوموي المتعصب، وتحدّد تمايزها الواضح وبعدها الأكيد عن النزعات المتطرفة الإرهابية بكل أشكالها، وتساهم مع القوى الوطنية الأخرى قولاً وعملاً في بلورة معالم مشروع وطني حقيقي، يطمئن سائر المكوّنات من دون أي تمييز، أو أية عقد. مشروع وحده سيمكّن المجتمع السوري من تحصين نفسه مجدداً في مواجهة أهداف ونتائج المشروع الإيراني التوسعي، وذلك لمصلحة الجميع من دون استثناء، ولمصلحة إيران نفسها بطبيعة الحال، إذا أدركت أن أساس الداء هو الخلط القسري بين ما هو سياسي وما هو مذهبي.
* كاتب وسياسي سوري
نقلاً عن جريدة الحياة