
مصائر معلقة بالانتخابات التركية … هل في الإعادة إفادة؟
بيسان الشيخ
خوض تركيا اليوم (الأحد) انتخابات تشريعية مبكرة هي الثانية لها منذ خمسة أشهر، وسط ترقب محلي ودولي كبير، وطموح أكبر لـ «حزب العدالة والتنمية» الحاكم إلى استعادة غالبية نيابية تمكنه من تشكيل حكومة بلون واحد والتخلي كلياً عن احتمالات التوافق أو التشارك مع الأحزاب الأخرى من كتل علمانية أو كردية، والتي فرضتها نتائج الانتخابات السابقة.
ويعود الهاجس الأمني ليتصدر أولويات الناخب التركي، مع ازدياد وتيرة الهجمات الإرهابية وحدتها. وكان أعنف تلك الهجمات تفجير وقع قبل أقل من أسبوعين وأودى بحياة 100 شخص وجرح مئات آخرين يحمل بصمات لتنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» (داعش)، في ما وصف محلياً بأنه «كوكتيل نوعي» من التشدد الديني والتشدد العرقي.
وتأتي تلك السردية لتقول علناً إن منع العدالة والتنمية من التفرد بالحكم يعني من جملة ما يعني زعزعة الأمن والاستقرار وربما الاستعداد لمزيد من الهجمات. ذاك أن عدم رص الصفوف داخلياً، يعني فتح الباب على مصراعيه أمام كافة أنواع المخاطر، لا سيما تلك القادمة من خلف الحدود، سواء كانت تحت مسمى «داعش» أو «حزب العمال الكردستاني».
أما الإنجاز الوحيد الذي كان يمكن البناء عليه في هذا الصدد، وحققته الدورة الأولى من الانتخابات، أي إعلان الكتلة الكردية وقف عملياتها العسكرية ضد تركيا، على أثر فوزها بعدد من المقاعد النيابية، فأطاحته السياسات الاردوغانية التي توسلت الحرب على «داعش» لتضرب القواعد الكردية وتقصف معاقل أحزابها، فتساهم في شكل مباشر في تردي الوضع الأمني.
ويأتي ذلك كله، معطوفاً على تراجع اقتصادي حاد وخسائر تتكبدها الليرة التركية، وارتفاع في نسب البطالة (بلغت 10 في المئة)، وتضييق على الحريات العامة والإعلامية كان آخرها اقتحام مقر قنوات تلفزيونية معارضة، وملاحقة ناشطين سياسيين، وغير ذلك مما يضع «العدالة والتنمية» في دائرة الاتهام المباشر لجهة إنتاج الأزمات التي تتعرض لها البلاد وإعادة الاستثمار فيها.
وبعد أن كان الازدهار الاقتصادي رافعة أساسية للحزب في السنوات الماضية، حتى من خارج دائرة محازبيه المباشرين، وعنصراً ضابطاً للتناقضات الداخلية، أعادت المسألة الأمنية تفجير تلك التناقضات دفعة واحدة وترتيب أولويات الناخب التركي، الذي وجد نفسه فجأة أمام مهمة هائلة تتجاوز تقرير مصيره كفرد يسعى إلى الأمن والرفاه. فبلاده فرضت نفسها كلاعب إقليمي ودولي، وأثبتت أنها أفضل من يقوم بدور المنطقة العازلة بين شرق أوسط ملتهب واتحاد أوروبي قلق على أمنه، وميزانياته ونسيجه الاجتماعي- الديني. وعليه، فإن مصائر كثيرة معلقة اليوم بما ستنتجه صناديق الاقتراع التركية، بدءاً بـ «القضية السورية» وصولاً إلى إعادة صياغة العلاقة مع أوروبا.
ففيما تتخبط 28 دولة اوروبية في سبل التعامل والتكيف مع 700 ألف لاجئ وصلوا إليها عنوة، وراحت تعيد النظر في قيمها السياسية والإنسانية، وتبحث في أسس تلك الشراكة القائمة على الحدود المفتوحة وحرية تنقل البشر والبضائع، في ظل عودة بناء الجدران الفاصلة والحواجز الشائكة، تستضيف تركيا وحدها منذ أربع سنوات، أكثر من مليوني سوري على أرضها، وتتحمل عبء تكلفتهم المالية من ميزانيتها العامة، وقد بقيت حتى الساعة ملاذهم الآمن الوحيد من بين دول الجوار كافة. فلا لبنان ولا الأردن ولا العراق (ولا تركيا نفسها بغير «العدالة والتنمية») في موقع يسمح بلعب أي من هذه الأدوار، لا سيما لجهة فتح قنوات سياسية و «ميدانية» مع بعض أطياف المعارضة في وقت يشتد البحث عن «المعتدلين».
وصحيح أن واشنطن تخلت عن أنقرة كحليف أساسي في الملف السوري لمصلحة موسكو، ولم تلبّ طلبها الملح في إقامة منطقة آمنة على الحدود السورية – التركية، إلا أن النشاط الديبلوماسي الأخير يشير إلى اعتراف أوروبي واضح بالدور التركي وحاجة بلدان الاتحاد لتركيا قوية ومستقرة تزيح عنها حملاً كبيراً، وإن بجولة إضافية من حكم حزب ديني.
ولا شك في أن «الإغراء» الذي قدمته المستشارة الألمانية أنغيلا مركل خلال لقائها أردوغان الأسبوع الماضي، حول إعادة فتح ملف انضمام تركيا إلى الاتحاد الاوروبي، ليس مجرد زلة لسان عابرة. فالمستشارة تدرك جيداً أن ذلك الاقتراح يدغدغ مشاعر شرائح كثيرة من الرأي العام التركي، وأنه بقي حلماً عصياً عن التحقّق حتى الأمس القريب، ويمكن أن يشكل في الوقت نفسه جزرة وعصا تلوح بهما حين تدعو الحاجة. هو جس نبض واضح وغير بريء لإمكانيات التفاوض على المصالح المشتركة، لا سيما أن أوروبا استيقظت على أزمة في هويتها الدينية، وتيقنت أن الباب الذي أوصدته مراراً في وجه تركيا المستقرة والغنية ولكن المسلمة، وفتحته أمام بلدان أقل تلبية للشروط مثل بلغاريا ورومانيا، تكسر وتخلع أمام أفواج من اللاجئين المسلمين والمعدمين في آن.
وعليه، يبدو أن ثمة مصلحة عامة في بقاء «العدالة والتنمية» لكسب مزيد من الوقت وإبقاء الجميع سعداء. فهل يتم ذلك بوجوه جديدة تستفيد من تنافس الأجنحة ضمن الحزب نفسه، أو بشراكات وتحالفات تنفس شيئاً من الاحتقان الداخلي؟ أو قد نشهد إعادة أخرى للانتخابات تفجر ما لم يتفجر بعد؟
الحياة