آراء

منطقة شرقي الفرات: واقع صعب ومستقبل مجهول

عبد الباسط سيدا

مصير منطقة شرقي الفرات، أو المحافظات الشرقية وفق المصطلح الرسمي، وهي محافظات الرقة ودير الزور والحسكة، لم يحسم بعد. فبالإضافة إلى الوجود الأمريكي على رأس التحالف الدولي الذي يعتمد على “قوات سوريا الديمقراطية” التي تتكون من عناصر تنتمي على الصعيد المجتمعي إلى مختلف مكونات المنطقة؛ إلا أن القوة الأساسية فيها هي التابعة لحزب العمال الكردستاني، وتمثله واجهته السورية “حزب الاتحاد الديمقراطي” PYD هناك وجود للقوات الإيرانية والميليشيات التابعة لها خاصة في منطقة دير الزور والبوكمال تحديداً. كما يعزز الروس مواقعهم في أكثر من مكان، وبالتنسيق مع قوات النظام وأجهزته الأمنية، العلنية منها والسرية الموجودة في أماكن متعددة من المنطقة المعنية.

هذا فضلاً عن إصرار الجانب التركي على تسيير دوريات مشتركة مع الروس ضمن إطار توافقات أستانا وسوتشي، إلى جانب تفاهمات وتوافقات بوتين وأردوغان. وحتى التوافقات الأمريكية التركية لاسيما بعد السيطرة التركية على المنطقة الممتدة بين تل أبيض ورأس العين.

ومن المعروف أن لكل طرف من هذه الأطراف حساباته وتمنياته، ولكن الجميع في انتظار تبلور معالم الموقف الأمريكي الخاص بسوريا، والمنطقة؛ وذلك في سياق ما يجري في العراق خاصة، ولبنان. وفي ضوء نتائج الانتخابات الرئاسية الأمريكية التي تنوء راهناً تحت أعباء جائحة كورونا، والأزمة الاقتصادية المترتبة عليها؛ فضلاً عن حالة عدم الاستقرار التي يشهدها الخليج نتيجة تصاعد وتيرة الاتهامات والتهديدات المتبادلة بين الجانبين الأمريكي والإيراني.

أما على صعيد الواقع اليومي الذي يعيشه الناس في المنطقة، والمستقبل الذي ينتظرهم، فهما متوقفان إلى حدٍ كبير على توافقات أو مواجهات الدول المنخرطة في الملف السوري. والأولوية كما أسلفنا، هي للموقف الأمريكي بطبيعة الحال.

ولكن كردياً هناك ترقّب خاص لما ستسفر عنه التباينات الموجودة بين قيادة حزب العمال الكردستاني في قنديل، وأجنحة كردية سورية ضمن حزب الاتحاد الديمقراطي، والقوات التابعة لها التي بدأت تدرك أهمية وضرورة التركيز على الخصوصية السورية، والتحرر تدريجياً من هيمنة الأجهزة الاستخباراتية المرتبطة عضوياً بقيادة قنديل التي ما زالت تتحكم بمفاصل “الإدارة الذاتية” التي فرضها الحزب المعني في المنطقة من دون أية شرعية شعبية أو رسمية، وإنما بـ “شرعية الأمر الواقع”؛ وبتوافقات أمنية مع النظام نفسه، وبدعم غير رسمي من الجانب الأمريكي الذي تتعامل أجهزة استخباراته مع الإدارة المعنية، بوصفها إدارة أمر الواقع، تضبط الأمور بما ينسجم راهناً مع الحسابات الأمريكية في تلك المنطقة.

إن نجاح حزب الاتحاد الديمقراطي في فك الارتباط مع حزب العمال الكردستاني، والاندماج مع الواقع السياسي الوطني السوري سيكون من دون شك لصالح الكرد والعرب والسريان والتركمان، وسائر المكونات المجتمعية في منطقة شرقي الفرات، ولصالح السوريين بشكل عام في جميع المناطق السورية.

فخطوة من هذا القبيل ستفتح الآفاق أمام مصالحة كردية – كردية سورية، وستضع حداً لوضعية الاستقطاب المهيمنة حالياً بين مختلف الأحزاب، خاصة بين حزب الاتحاد الديمقراطي من جهة والمجلس الوطني الكردي من جهة أخرى. فالأول يحظى بدعم متعدد المصادر، ويسيطر على موارد مادية كبيرة، كما أنه يمتلك القوات العسكرية على الأرض، ويمتلك السلاح، ويتحكم بالإدارة؛ هذا في حين أن الثاني (المجلس الوطني الكردي) يمتلك الشرعية السياسية والتعاطف الشعبي، ولكنه فقد الكثير من حيويته نتيجة أخطائه وخلافاته، وعدم تمكنه من تقديم بديل مقنع، يمتلك الأهلية والمصداقية على المستوى الكردي.

ومصالحة وطنية كردية – كردية سورية ستكون خطوة هامة على طريق المشروع الوطني السوري، والمقدمة المطلوبة للارتقاء بالعلاقة العربية – الكردية نحو مستويات أفضل، وأكثر تطوراً، تنسجم مع وقائع التاريخ والجغرافيا والمصالح المشتركة، والموجبات الوطنية.

ومن شأن فك الارتباط المشار إليه بين الاتحاد الديمقراطي وحزب العمال أن يمهد السبيل أمام إعادة تحريك العملية السلمية الخاصة بحل القضية الكردية في تركيا، وهي العملية التي توقفت نتيجة اندلاع الخلافات والمعارك بين حزب العمال الكردستاني والحكومة التركية. ومن الواضح أن النظام الإيراني هو الذي عرقل، عبر قيادة قنديل، تلك العملية لكونها كانت تتناقض مع حساباته ومشاريعه في كل من سوريا والعراق؛ إلى جانب حساباته الأخرى. إذ كانت تركيا تنتهج في ذلك الحين سياسة “صفر مشاكل” مع الجيران، وكانت الحصيلة أنها تمكنت من تحسين علاقاتها مع جوارها، خاصة مع الدول العربية، وحققت نهضة اقتصادية لافتة، وقدّمت نموذجاً لتجربة ديمقراطية متميزة وفق مقاييس المنطقة، حتى بات النموذج التركي يتُخذ كمثال يمكن الاقتداء به من قبل دول المنطقة.

غير أن الأمور تغيرت رأساً على عقب بعد توقف العملية السلمية المشار إليها، ومن ثم جاء الانقلاب الفاشل ليقلب الموازين الداخلية والإقليمية. كما أن الوضع السوري، واضطراب العلاقة مع الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوروبية عموماً، والانفتاح على الروس؛ كل ذلك أسهم في بروز جملة من المشكلات الداخلية واجهها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، تمثلت في حالات الانشقاق ضمن حزب العدالة والتنمية، الحزب الحاكم، الأمر الذي دفع بالرئيس أردوغان نحو البحث عن حلفاء يقفون إلى جانبه، فوجده في حزب الحركية القومية التركي   M. H. P. الذي تتمحور سياسته الداخلية أصلا حول انكار وجود مشكلة قومية كردية في تركيا تستوجب الحل. الأمر الذي ساهم في إقامة العراقيل أمام حل منشود، عادل، وعلى قاعدة احترام الخصوصيات والحقوق ضمن إطار وحدة البلد والشعب.

ولكن عملية فك الارتباط بين حزب الاتحاد الديمقراطي وحزب العمال من شأنها تشجيع حزب الشعوب الديمقراطي (H. D. P.) على امتلاك القرار المستقل، والدخول في مشروع مبادرة سلمية جادة مع الحكومة التركية من أجل الوصول إلى حل واقعي مقبول لصالح الجميع. فهذا الحزب يعاني هو الآخر من تحكّم قيادة قنديل وأجهزتها الاستخباراتية، وهي قيادة ما زالت خاضعة لالتزاماتها مع النظام الإيراني.

ولكن الأسئلة الجوهرية الوجودية تظل مطروحة: هل ستسمح قيادة قنديل بعملية فك ارتباط سلسة، تكون في نهاية المطاف لصالح الشعب السوري، وشعوب المنطقة بصورة عامة؟ أم أنها ستظل متحكّمة بورقة كرد سوريا التي حققت لها ما لم تكن تحلم به في يوم من الأيام إعلامياً ومالياً وعسكرياً؟

هل تستطيع قيادة قنديل الاستمرار في نهجها البراغماتي الانتهازي الذي يتشخص في الاستفادة من خلافات، وتباين حسابات القوى المتصارعة على الساحة السورية؟ أم أن الأمور قد دخلت مرحلة جديدة، خاصة بعد إغلاق ملف محاربة الإرهاب، ومحاولة كل طرف تثبيت وجوده على الأرض، وانتزاع الأوراق التي يعتقد أنها تساهم في تحسين شروطه التفاوضية؟

وماذا عن متطلبات الناس، وحاجاتهم؟ فالإدارة الذاتية التي فرضها الحزب المعني غير قادرة راهناً بتشكيلاتها وآلياتها ونوعية كوادرها على تلبية هذه الحاجات والمتطلبات المتنامية، كما أنها عاجزة عن حل المشكلات الناجمة عن تدهور سعر الليرة السورية، والارتفاع الجنوني في الأسعار. فالأوضاع المعيشية صعبة للغاية، وقطاعات التعليم والصحة والخدمات بصورة عامة تعاني من تداعيات كبرى؛ بل إن القطاع الزراعي يعاني الكثير نتيجة العراقيل التي تقيمها الإدارة المعنية. كما أن حالات الفساد باتت معلماً من معالم الإدارة المعنية رغم كل الشعارات الكبرى، والبهلوانيات والعنتريات التي أثبتت خواءها في أكثر من مناسبة.

وتفيد المعلومات الواردة من المنطقة أن الروس يقومون من جانبهم بتشكيل الميليشيات، وكذلك يفعل الأمريكان. هل يدخل ذلك في باب تقليص دور حزب العمال في الساحة السورية؟ أم أن الموضوع له علاقة بحالة التنافس بين القوى الدولية التي قد نجد صدى لها في التباينات والخلافات بين أجنحة الحزب المعني نفسه؟

لقد دفع كرد سوريا ضريبة باهظة، تجاوزت بكثير حدود امكانياتهم وحجمهم السكاني. والخشية كل الخشية أن تستمر قيادة قنديل في مشاريعها ومخططاتها التي كانت وبالاً على كرد سوريا من جهة التهجير والواقع المعيشي الصعب الذي يعيشونه اليوم؛ هذا إلى جانب واقع التغيير الديموغرافي الذي تتعرض له عفرين راهناً، وليس من المستبعد أن تعاني رأس العين وكوباني ومناطق أخرى مستقبلاً وضعاً مشابهاً إذا استمرت السياسات عينها من جانب حزب العمال.

ويبقى السؤال الأهم: أما آن للعقلاء في قيادة قنديل، إن وجدوا، أن يعودوا إلى رشدهم، ليدركوا أن ما حصل حتى الآن قد أساء إلى الكرد جميعاً سواء في سوريا أم في العراق وتركيا؟ كما أدى إلى إثارة النزعات القومية العمياء، وأسهم في خلق المشكلات بين العرب والكرد، الأمر الذي لا يمكن أن يكون لصالح الطرفين، وإنما لصالح النظام ورعاته خاصة النظام الإيراني الذي اتخذ من كل المسائل الخلافية، سواء المذهبية أم القومية، وسيلة لدعم مشاريعه التوسعية التي كانت كارثية بنتائجها على منطقتنا وشعوبها، والشعب الإيراني ضمناً بطبيعة الحال.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى