من ذاكرة الكتابة … ترامب على خُطى غورباتشوف
شاهين أحمد
في ربيع عام 1985 وبعد وفاة ” قسطنطين تشيرنينكو ” اجتمعت اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفيتي وانتخبت ” ميخائيل غورباتشوف ” أميناً عاماً للجنة المركزية للحزب . وبعد استلامه السلطة ، قام غورباتشوف بطرح عدة مفاهيم ومصطلحات جديدة مثل ” البروسترويكا =إعادة البناء والتغيير، والغلاسنوست = العلانية أو الشفافية “.حيث استلم الحكم بعد مرحلةٍ طويلة من الركود والترهل في مختلف المجالات . يقول غورباتشوف بأنه كان يهدف من وراء تلك الشعارات إلى إحداث تغييرات وإصلاحات شاملة في أجهزة الحزب والدولة السوفيتية ومؤسساتها المختلفة ، من خلال إدخال مفاهيم الانفتاح وإعادة الهيكلة ونشر الديمقراطية وتحقيق التنمية الاقتصادية ، والقضاء على البيروقراطية ، وتقليل الهدر و زيادة الإنتاجية ، يعني باختصار إصلاحات شاملة للسياسات الداخلية والخارجية . ولكنه بالمقابل يقول في كتابه البروسترويكا ” بأنْ هذه الإصلاحات والأفكار ربما تؤدّي إلى نتائج لا يتوفّعها أحد ” ؟ّ!. وفعلاً حصل مالم يكن يتوقّعها الكثيرون ، حيث تفكّك الاتحاد السوفيتي ، و انهارت المنظومة الإشتراكية ، وأصيبت حركات التحرر الوطني بشكلٍ عام واليسارية منها على وجه الخصوص بانتكاساتٍ في العديد من بلدان العالم ، وإنتقلت قيادة العالم من القطبية الثنائية إلى عهدة الولايات المتحدة الأمريكية . بالرغم من بعض الإنجازات التي حقّقها غورباتشوف حيث تجاوز السياسة التقليدية السوفيتية في العلاقات الدولية ، وإخراج العالم من حقول العسكرة ، ونجح في تحسين العلاقات مع الغرب الرأسمالي والحد من سباق التسلح ، حيث وقْعت موسكو و واشنطن خلال عام 1987عدة اتفاقيات للتخلص من الصواريخ النووية المتوسطة المدى ، كما خفضت موسكو قواتها التقليدية المنتشرة في بلدان أوروبا الشرقية ، وسحبت جميع قواتها التي شاركت في غزو أفغانستان عام 1979. وفي 7 كانون الأول 1988 ألقى غورباتشوف كلمة هامة في مقر الجمعية العامة للأمم المتحدة معلناً نهاية الحرب الباردة . لكن بالرغم من هذه الإنجازات لم ينجح غورباتشوف في تنفيذ الإصلاحات التي وعد بها ، نتيجة الأزمة الاقتصادية التي بدأت تتفاقم في البلاد ، والاضطرابات القومية في العديد من الجمهوريات ، وأحداث أخرى في دول المنظومة الاشتراكية وخروجها من المظلة السوفيتية والتي كانت لها الأثر البالغ في وقف الإصلاحات . وبالرغم من المشكلات التي وقفت في طريقه ، تمكّن غورباتشوف من إحداث نقلة نوعية في هيكلية السلطة السوفيتية ، حيث انتخب في عهده ولأول مرة خلال الحقبة السوفيتية برلمان ديمقراطي وأحدث منصب جديد هو ” رئيس جمهوريات الاتحاد السوفيتي ” وانتخبه البرلمان في آذار 1990 ليكون أول رئيس منتخب للاتحاد السوفيتي ، بالإضافة لرئاسة الحكومة الفدرالية وزعامة الحزب الشيوعي السوفيتي . لكن كلّ تلك الإنجازات لم تسعفه في وقف تدهور الأوضاع وحلّ المشاكل التي كانت تعاني منها البلاد ، وإزدادت النقمة الشعبية وتدهورت الأوضاع وحصلت اضطرابات وتصدعات في أوساط القيادة العليا للبلاد ، حيث لجأت بعض القيادات إلى تشكيل ” لجنة طوارئ ” وقامت بمحاولة انقلاب فاشلة في آب 1991 وقدّم غورباتشوف استقالته ، وفي كانون الأول 1991 أعلنت كلّ من روسيا وأوكرانيا وروسيا البيضاء استقلالها. وفي كانون الأول 1991 التقى غورباتشوف و يلتسين واتفقا على حلّ الاتحاد السوفيتي رسمياً
ويتفق المراقبون والمتابعون بأنّ التغيرات والإصلاحات التي عمل عليها ” غورباتشوف ” تعدّ من أهم العوامل التي أدّت إلى تفكْك الاتحاد السوفيتي وإنهيار المنظومة الإشتراكية.
الغرض من هذا الاستعراض السريع للحقبة السوفيتية الأخيرة بعد استلام غورباتشوف للسلطة وبرنامجه الإصلاحي الذي أدّى إلى إنهيار تلك الإمبراطورية ، هو دفع المهتمين والنخب إلى حقول المقارنة بين تلك الحقبة وذاك الزعيم ، وبين أمريكا بعد انتخاب ” دونالد ترامب ” ، الذي رفع شعار” أمريكا أولاً ” حيث يرى الكثير من المراقبين بأنّ هذا الشعار يخفي وراءه مشروع مماثل لمشروع ” غورباتشوف ” ، ونتائجه ستكون كارثية على أمريكا والعالم أجمع ، إذا ماتمكّن ” ترامب ” ومن خلال خطابه الشعبوي المعروف من تمرير مشروعه الذي يتلخص في جوهره بالتخلي عن مسؤوليات أمريكا في قيادة العالم ، ودعم الأنظمة الشمولية والنزعة الدكتاتورية في مساحاتٍ واسعة من العالم ، حيث بدأ الدور الأمريكي بالتراجع بشكل واضح في الكثير من الملفات الساخنة التي دفع الأمريكيون تكاليف مادية وبشرية فيها.
وهنا نلاحظ التشابه بين الزعيمين لجهة تفاعل الشارع الشعبي مع الخطاب العاطفي لكليهما ، وكذلك الظروف المتشابهة التي استلم كلّ منهما الحكم فيها . الجميع يتذكّر بأنّ ” ترامب ” استلم الحكم بعد مرحلة ضعف واضحة خلال عهد ” باراك أوباما ” ومارافقه من تراجع لدور الولايات المتحدة الأمريكية ، وعودة قوية لروسيا والصين إلى المشهد الدولي.
أثار الرئيس الأمريكي ” ترامب ” منذ فوزه في الانتخابات الرئاسية الأمريكية عام 2016الكثير من الجدل حول دور وموقع أمريكا كزعيمة للعالم في ظلْ إدارته ، حيث ارتكب الكثير من الأخطاء ، منها وصفه العالم الثالث بـ”الدول القذرة” وما أثاره هذا التوصيف من ضجة وردود فعل واسعة ضده ، وكذلك تدويناته الكثيرة والمثيرة على “تويتر” وهجومه القاسي على بعض المسؤولين السابقين في الإدارات الأمريكية المختلفة ووصف بعضهم بـ”الكلاب” ، وأخطائه الكثيرة والمتكررة مع وسائل الإعلام التي جعلت غير مرة كبار موظفي البيت الأبيض والخارجية في حالة من الحرج والارتباك ، وقراره بالإنسحاب من أفغانستان التي تشكّل هدية للمتطرّفين في حركة ” طالبان ” الأفغانية – الذي يذكرنا إلى حدٍ بعيد بقرار غورباتشوف بالإنسحاب من نفس البلد وتسليمه إلى المتطرّفين في 1989- وكذلك قراره ” الإشكالي ” الخاص بالانسحاب من سوريا بشكلٍ مفاجىء الذي أحدث زلزالاً وتصدعاً داخل إدارته ، وصدمة في أوساط حلفائه ، وفتح شهية الإرهابيين وتشجيعهم في لملمة صفوفهم والاستمرار في جرائمهم . و أحدثت سياسة ترامب شرخاً واضحاً بين أمريكا من جهة والكثير من حلفائها من جهة اخرى ، مثلاً المستشارة الألمانية ” أنجيلا ميركل” قالت عقب لقائها بالرئيس ترامب ” إنها شعرت بأن أوروبا لا يمكنها بعد الآن الاعتماد على حليفها القديم “.
وعلى الصعيد الداخلي يواجه – ترامب – مشكلة حقيقية منذ فوزه ، حيث يعتقد الكثيرون بأنّ روسيا من خلال أجهزة الاستخبارات ساعدته على الفوز، نتيجة تدخل تلك الأجهزة وبالتواطؤ معه في إثارة بعض القضايا التي أثّرت سلباً على شعبية منافسته ” هيلاري كلينتون ” ، يضاف إليها أخطاؤه المتكرّرة التي جعلت أوساط مهمة داخل مؤسسات صنع القرار في أمريكا التي بدأت تفكّر بشكلٍ جدي عن مدى خطورة استمراره – ترامب – في الحكم ، وبات يواجه مخاطر جدية ومتزايدة بإمكانية عزله قبل انتهاء ولايته الرئاسية.
ولكن بكل تأكيد أمريكا ليست الاتحاد السوفيتي، سواءً لجهة امتلاكها المؤسسات القوية ودورها في صناعة القرار، وكذلك لجهة القوى التي تتحكّم بمفاصل الدولة ودورها . ولكن يتبقّى هناك أكثر من سؤال يشغل بال المهتمين بمصير العملاق الذي يقود العالم ومن هذه الأسئلة :هل ستسمح المؤسسات الصانعة للقرار الأمريكي لـ ” ترامب ” بالمضي بالبلاد قدماً نحو الهاوية ؟. أم أنّ السياسة الأمريكية في بعدها الاستراتيجي لاتتغير بتغير الرؤساء ؟.
هل ستتمكّن القوى الفاعلة ، والمؤسسات العريقة ، ومراكز الأبحاث والدراسات الاستراتيجية في المجتمع الأمريكي من إنقاذ أمريكا والعالم من الكارثة المحتملة ، وإبعاد ترامب عن قيادة أمريكا والعالم ؟.
وماهي القوى الدولية المؤهلة التي ستقود العالم وتملأ الفراغ الذي قد تتركه أمريكا في حال فوز ترامب بولاية رئاسية جديدة واستكمال مشروعه الكارثي المدمر؟.
ماهو مصير القارة الأوربية بعد حصول الكارثة ؟.
هل سيشهد العالم حرباً كونية ثالثة إذا فاز ترامب ثانية و انهارت أمريكا ؟.
ملاحظة : كتبت هذه المساهمة قبل سنتين من تاريخ اليوم .