نافذة على إسهام الكُرد في الحضارة الإسلامية
د. محمد حبش
لا أريد في هذه المقالة ان أقدّم تاريخاً للكُرد، ولكن هذه القراءة تأتي في سياق الردّ على نكران مزدوج بات سمة في الخطاب الانفعالي في جدل العرب والكُرد المستمرّ منذ سنين والذي تعاظم بشكلٍ مخيف في غمار الاشهر الأخيرة، حيث يطلق سياسيون وناقدون سوريون اتهامات عنصرية وفاشية ضد الكُرد ويشكّكون في وجودهم وإسهامهم الحضاري، في حين يقوم ناقدون وسياسيون كُرد بالردّ على ذلك بالتنصل من أي علاقة للكُرد بالتاريخ العربي أو الإسلامي، ومحاولة تقديم الكُرد كما لو كانوا أشباحاً مدهشين من الأطلانتس الغامض مسكوناً بالمجد الميدي والآهات الزرداشتية التاريخية، يعيش في المنطقة بكلّ أعاصيرها ولهيبها دون أن يتصل حضارياً أو فكرياً أو معرفياً بشيء من هذا الطوفان الهادر فيها.
ومن المؤكّد أنّ الكُردي الذي تمسّك بأرضه ووطنه وترابه في الجزيرة عانى قدراً كبيراً من التجهيل والتجاهل، وبات في المجتمع السوري صورةً بائسة للكادح المتعب، وامتنع البعث القومي من الاعتراف بجنسية عشرات الآلاف من الكُرد ، الامر الذي حرمهم من التعليم، وتعاملت البوروجوازية الشامية والحلبية مع الاكراد على أنهم يد عاملة رخيصة حيث لا حقوق ولا أفق، وكرست عمل شبابهم نواطير مزارع وكراسين مطاعم، في مشهد يناقض تماماً دورهم التاريخي والمعرفي.
فهل الاكراد مجتمع منكفئ لا أرب له في العلم كما تقول الأسطورة البورجوازية في الشام وحلب؟
وهل كان الكُرد بالفعل وجوداً معقداً منفصلاً عن محيطه التاريخي؟
وهل هذه الصورة التي يرسمها الانفعال المتبادل من القطيعة والعزلة والجهل هي صورة هذا الشعب الكُردي المكافح النبيل؟
ومع أنني أملك الجواب من عشرات المدائن الكُردية التاريخية ، ولكنني سأكتفي بقرية واحدة…..
جزيرة ابن عمر واحدة من حواضر الكُرد التاريخية، وهي تقع على الحدود السورية العراقية التركية، وهي اليوم في أراضي تركيا ولا ينازع أحد أنها كُردية حتى العظم.
ومع أنها ليست جزيرة، ولكنها محاطة بالماء من أطراف ثلاثة، حيث يلتفّ حولها نهر دجلة حتى يجعل منها شبه جزيرة؛ ولأجل ذلك سميت جزيرة ابن عمر، وقد أشار الواقدي أنها سُميت جزيرة ابن عمر نسبةً الى عبد العزيز بن عمر من سادات الموصل قام ببناء هذه البلدة في العصر الأموي…
أما رجالها الكبار فقد عددنا منهم هنا خمسة رجال سمّوا باسم ابن الجزري، ورصدت إسهامهم في العصر الذهبي للحضارة الإسلامية ولم أشأ أن أضمّ اليهم النابغين المعاصرين الذين جاءوا أيضاً من هذه القرية.
أول الجزريين الكُرد هو المخترع الشهير ابن الجزري (1136- 1206)
عاش بديع الزمان إسماعيل بن الرزاز ابن الجزري في جزيرة ابن عمر في كنف الدولة الارتقية في القرن العاشر الميلادي، وقد نجح ابن الجزري أن يقدّم سلسلة من الاختراعات الفريدة في التاريخ البشري، التي ظلّت شاهدة على تفوق هذه المنطقة علمياً وحضارياً ومعرفياً.
عمل ابن الجزري كبيراً للمهندسين في ديار بكر في الدولة الارتقية، وخلال خمسة وعشرين عاماً من الخدمة قدّم سلسلة احتراعات عجيبة في الهندسة الميكانيكية، وخاصةً في حقل الري، فاختراع آلات رفع الماء وساعات مائية وصمامات تحويل وأجهزة متعددة للتحكم الذاتي، وقد جمع اختراعاته في كتاب بعنوان “الجامع بين العلم والعمل النافع في صناعة الحيل”.
ويمكن إجمال الأعمال الميكانيكية التي أنجزها ابن الجزري في المضخات الاسطوانية، ونواعير رفع الماء على نمط مدينة حماه، وقد أشار بوضوح إلى الطاقة الكامنة في الأنهار وإمكانية تحولها الى طاقة مخزّنة، وصنع مضخة الزنجير والدلاء لتخزين طاقة سقوط الماء على المغارف وتحويلها الى طاقة جديدة، وأبدع في صناعة الساعات المدهشة التي أخذت اسمها من الشكل الخاص الذي تظهر فيه وفق تصميمه: ساعة القرد، وساعة الفيل، وساعة الرامي البارع، وساعة الكاتب، وساعة الطبال، وتعتبر ساعة الفيل الضخمة أهم اختراعاته، وصارت هدية الملوك والخلفاء التي تعبّر عن تفوق الحضارة الإسلامية.
كان لتصانيف الجزري أثر كبير جداً في الغرب، وقد تعاقب عدد من المستشرقين على دراسة أعمال الجزري ومنهم لين وايت ودونالد هيل والدو ميللي ، وقد اعتبر وايت أن ّالتروس القطعية التي أنجزها الجزري لم تظهر في الحضارة الأوربية إلا بعد قرنين من الزمان، حيث ظهرت لأول مرة في ساعة جيوفاني جونجي الفلكية.
وتعتبر تجارب الجزري أول تجارب العلم التطبيقي للتحول من الطاقة الحيوانية في السقاية والنضح الى الطاقة المائية الذاتية التي يمكن أن توفّرها الأنهار، وهو ما بات عماد صناعة الكهرباء منذ اكتشافها إلى اليوم.
ويعرض كتاب الجزري اليوم في متحف اللوفر ومتاحف علمية كثيرة في العالم ،وقد ترجمه الى الألمانية فيدمان كما ترجمه إلى الانكليزية دونالد هيل.
ويمكن اعتبار الجزري ثورة حقيقية في علم الميكانيك على المستوى العالمي ولا تزال الدراسات الغربية تشير إلى الدور المحوري الذي أنجزه الجزري وخاصةً في مجال تخزين الطاقة وتوظيفها.
وضع الجزري علمه في خدمة الدولة الأرتقية، وكان الخليفة الناصر آنذاك أكثر الخلفاء اعتماداً على الحيل التكنولوجية وخاصةً في الاتصالات ولا شك أنه أفاد منها فائدة عظيمة.
ومن أشهر علماء الكُرد في جزيرة ابن عمر الثلاثة الجزريون الاخوة وهم أبو السعادات وأبو الحسن وضياء الدين ….
وهؤلاء الثلاثة يشكّلون في التاريخ الإسلامي قاعدة متينة لمجموعة من العلوم الشهيرة، وقد عرفوا جميعاً باسم واحد هو ابن الاثير الجزري، كما عرفوا بمشاركتهم الفعّالة مع أبناء صلاح الدين الأيوبي في حكم الشام ومصر.
أولهم أبو السعادات مجد الدين المبارك بن محمد (544-606) إمام العالم الإسلامي كله في علم الحديث، وقد أنجز كتابه التاريخي جامع الأصول في علم الأصول الذي اعتبره الجميع مرجعاً نهائياً للسنة النبوية ولا زال الناس الى اليوم عالة على جامع الأصول لابن الاثير، وقد نجح تماماً في تمييز الأصيل من الدخيل في السنن ،فلا وجود لصحيح خارج كتاب جامع الأصول وهي حقيقة لا ينازع فيها أحد من أهل السنن.
كما أنه صاحب كتاب النهاية في غريب الحديث والأثر وهو مرجع المحدثين جميعاً في علم غريب الحديث.
وأما ثاني الأخوة الجزريين فهو أبو الحسن عز الدين علي بن محمد (555-630) وكان في الواقع من زعماء الكُرد وعلمائهم، وقد صحب صلاح الدين في فتوحه ببيت المقدس، وبنى أوثق الصلات مع القادة السياسيين والدينيين في عصره،
وظهر علمه الكبير في كتابه الكبير الكامل في التاريخ، الذي يُعتبر بحق أوعب كتاب في التاريخ الإسلامي وقد أرّخ فيه الى نهاية عصره ويعتبر كتاب ابن الأثير مرجع الكافة في علم التاريخ بلا منازع.
ومن كتبه الشهيرة في العالم الإسلامي أيضاً كتابه أسد الغابة في معرفة الصحابة وهو أهم كتب التراجم للصحابة الكرام، ويعتبر مرجع الكافة في علم الرجال في المرحلة الأولى للتاريخ الإسلامي.
وأما ثالث الجزريين الأخوة فهو ضياء الدين نصر الله بن محمد (558-637) فقد كان شاعراً مجيداً وكان أكثرهم مشاركةً في النشاط العام وكان وزيراً من وزراء الأيوبيين، وقد ارتحل إلى دمشق وصار بمثابة وزير مفوض في دولة الملك الأفضل ابن صلاح الدين الأيوبي.
عاد ابن الأثير الثالث إلى جزيرة ابن عمر بعد انتهاء حكم الأفضل ،وأكمل حياته متنقلاً بين الموصل وجزيرة ابن عمر وكتب مجموعة كتب هامة، بعضها لم يصل إلينا، ومنها مختارات في الحديث، وفي الشعر والأمثال. وينسب إليه كتاب «تحفة العجائب وطرفة الغرائب» وهو مجموعة من منظوم العرب ومنثورهم في عناصر الكون والطبيعة من سماء ونجوم وماء وشجر.. وكتاب «عمود المعاني» وهو في معاني الشعر، وكتاب «الوشي المرقوم في حلِّ المنظوم»، وكتاب «الجامع الكبير في صناعة المنظوم والمنثور»، وكتاب «البرهان في علم البيان»، ثم كتاب «رسائل ابن الأثير» ويضمّ ما دبجه من رسائل متأنقة العبارة موجهة إلى أعلام العصر وكبراء حكامه، وهي تكشف عن مشاركاته السياسية في تحولات عصره كما تقدّم معلومات هامة عن القرن السابع الهجري، أما كتابه «المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر» فهو أشهر كتبه في النقد الأدبي، وبلغ به مصاف كبار النقاد العرب، وكان موضع ثناء الأقدمين ونقدهم، وقد عقب عليه ابن أبي الحديد في كتاب آخر اسمه «الفلك الدائر على المثل السائر»، ولصلاح الدين خليل بن أيبك الصفدي «نصرة الثائر على المثل السائر»، وكلاهما في نقد كتاب ابن الأثير.
ولا بدّ أن نشير هنا إلى الشاعر الكُردي الكبير ملا جزيري (975- 1044) هجرية الذي انطلق من جزيرة ابن عمر، ونال شهرة واسعة في الأناضول والعراق وبلاد الشام، وقد كتب الشعر على المذهب الكلاسيكي باللغة الكُردية الكوردمانجية، وقد استطاع هذا الشاعر أن يقدّم قراءته الشهيرة في الدمج بين الحب الإلهي والحب البشري، وكان منطلق الفكر الصوفي العميق الذي يرى في كل أفق تجلي جلاله وفي كل روض تجلي جماله وفي كل غيث تجلي نواله وفي كل ليل تجلي وصاله وفي كل خلق تجلي كماله.
لقد تمكّن من الكتابة بروح الاتحاد دون أن يلقي بنفسه في الأقفاص المذهبية الفقهية المضنية، وأثار قضايا إنسانية في معاناة الكُرد صارت نشيداً وحداءً وتاريخاً لمعاناة هذا الشعب النبيل، وديوانه الشهير المسى ديوان جزري كان يعكس الروح المتدفقة للشعب الكُردي في قراءة لوجة الخير والحب والجمال.
هذه بعض ملامح الإسهام الكُردي في الحضارة الإسلامية الكبيرة، وهي قراءة مجتزأة سريعة لا تتجاوز بلداً واحدة من بلاد الكُرد التاريخية، وآثارهم فيها محفوظة مشهورة لا ينكرها إلا حاقد.
ولم أشأ أن أذكر من المعاصرين الكُرد أبناء جزيرة ابن عمر وهم كثير.
ومع أنه لا شك في تكرّر ظاهرة القرية العالمة التي يتكرّر منها ظهور المبدعين ولكن جزيرة ابن عمر كانت أشد فرادة وأغزر إنتاجاً من أي بلدة أخرى بمثل حجمها.
إنه يمكن بكلّ تأكيد تقديم نظائر للقرية المبدعة، ولكنني أحببت أن أقدّم هذا السرد التاريخي في مقابل طوفان من النكران والجحود الذي قدّمه في الأشهر الأخيرة سياسيون وصحفيون وناقدون سوريون في غمار الاتهامات المتبادلة لإنكار دور الشعب الكُردي النبيل في صناعة الثقافة والتاريخ.
المقال منشور في جريدة يكيتي العدد “321”