نحو صياغة مشروع وطني سوري تغييري جامع وشامل (الجزء الأول)
شاهين أحمد
نلفت عناية المهتمين الأكارم بأننا سوف نستعرض وعبر حلقات أهم العقبات والعوامل التي عرقلت جهود الوطنيين المخلصين الهادفة لـ صياغة مشروع وطني سوري تغييري جامع وشامل ومعبر عن وجود وحقوق كافة مكونات الشعب السوري القومية والدينية والمذهبية . وبالتالي نأمل أن تثير مواضيع هذه السلسلة ردود فعل إيجابية من جانب نخب شعبنا ومن مختلف المكونات للتفاعل الجدي مع هذا الموضوع لتوليد رؤى وطرح أفكار من شأنها بلورة مشتركات وطنية تشكل أساساً لإنجاز المشروع الوطني الذي يشكل المخطط الإنشائي لبناء سوريا الجديدة . وخصصنا الجزء الأول من هذه السلسلة حول الأسلمة السياسية .
ظهر لدى غالبية المفكرين وعلماء الدين الإسلامي بعد انهيار الإمبراطورية العثمانية و بداية الإحتلال الاستعماري الحديث والهيمنة الغربية على العالم الإسلامي، اعتقاد سائد بأن الدولة الإسلامية القوية الجامعة هي السبيل الوحيد للمحافظة على الشعوب الإسلامية وحقوقها. وكان هذا الاعتقاد دافعاً للكثير من الشخصيات التي كانت وراء ظهور العديد من الحركات الإسلامية التي طرحت بداية إصلاح المجتمع وبعث الروح من جديد في مفاهيم الأمة الإسلامية ودولتها، وأسباب تراجع المسلمين وتخلفهم عن باقي الأمم والحضارات. وفقدانهم لقوتهم ودولتهم حسب أصحاب هذا الاعتقاد يعود إلى ابتعادهم عن الدين وهجرتهم للشريعة الإسلامية! وبالتالي ليس من سبيل لإستعادة أمجادهم إلا من خلال تنظيم وتأطير طاقات المجتمع وفقاً لأصول الشريعة وصولاً لبناء الخلافة الإسلامية من جديد، وإعادة تنظيم حياة المجتمعات طبقاً لتلك الشريعة وتأسيسها وتوحيدها واستعادة دورها كقوة عالمية. وكان الجري وراء هذا الوهم هو الأساس في ظهور تنظيمات الإسلام السياسي التي تنتشر نماذج مختلفة منها اليوم مثل الجمعيات في أمريكا وكندا وأوربا الغربية، والجماعة الإسلامية في أرخبيل المحيط الهادي وجنوب آسيا وجنوب شرقها، وجماعات الإخوان المسلمين في العالم العربي والشرق الأوسط تحت مسميات مختلفة. وجدير ذكره أن هذه الحركات تختلف فيما بينها لجهة حدود الدولة الإسلامية التي تناضل من أجلها، فبعضها عالمي عابر للحدود القطرية مثل تنظيم القاعدة بفروعها وداعش وأخواتها تسعى إلى إقامة إمبراطورية إسلامية عالمية. ومنها تنحصر عملها وهدفها في إطار الكيانات القطرية القائمة، مثل حركة حماس الفلسطينية وطالبان الباكستانية، وطالبان الأفغانية والإخوان المسلمين في مصر وسوريا وحركة النهضة في تونس والجماعة الإسلامية في كوردستان العراق…الخ. وتختلف تلك الحركات أيضاً لجهة الأساليب والوسائل التي تعتمد في عملها، فمنها تعتمد القوة والعنف والإرهاب سبيلاً لتنفيذ مخططاتها كما حصل في العراق وأفغانستان وسوريا وليبيا واليمن …الخ. ومنها ماتسعى لاستغلال المناخات الديمقراطية والوسائل السلمية لتحقيق أهدافها بما في ذلك الانتخابات. وبعد إنطلاق ثورات الربيع في المنطقة والتي نجحت في وضع نهاية مؤقتة لبعض الدكتاتوريات كما حصل في تونس ومصر ودفعت بدول أخرى مثل السعودية والمغرب والأردن إلى إجراء إصلاحات في بعض المؤسسات. دفعت النشوة الأولية لإنتصار بعض تلك الحركات التي ركبت موجة الاحتجاجات إلى إعادة الأمل والحياة من جديد للبذور المتطرفة المدفونة والجذور العميقة الحاملة للإسلام السياسي، وأعادت الروح إلى حركاته من جديد، وخاصة أن بعضها نجحت في الوصول إلى الحكم عن طريق الإنتخابات كما ذكرنا، وبدأ مشهد جديد يتشكل بوضوح بأن أغلبية الدول التي شملتها الإحتجاجات ستقع تحت حكم الإسلام السياسي . وفي بلدنا الذي يعيش أزمة سياسية منذ ماقبل انقلاب البعث قبل ستة عقود وحتى اليوم كان الإسلام السياسي أحد مسببات دوام الأزمة التي تحولت إلى محرقة بعد انطلاق الاحتجاجات منذ 13 عاماً وأدت إلى تدمير سوريا وتهجير أهلها وقتل مئات الآلاف منهم . كما لايخفى على أحد أن أجنحة الأسلمة السياسية التي تسيطر على مفاصل مؤسسات المعارضة كانت أحد عوامل فشل صياغة المشروع الوطني التغييري الجامع . وبالرغم من كل ذلك لايمكن لأحد القفز على تركيبة المجتمع السوري الذي بدون أدنى شك أن الإسلام هو دين غالبيته وجزء من الهوية الروحية لتلك الغالبية، وهو أمر طبيعي . ومن الأهمية التأكيد هنا بأن الهدف من هذه المساهمة ليس دفع أنصار هذه الديانة لترك دينهم ، أوالابتعاد عن عقيدتهم الروحية، لا أبداً. لكن بكل تأكيد أن المساهمة تهدف من بين ما تهدف ،إلى بيان الفرق بين الإسلام كأحد الديانات الأكثر انتشاراً في المنطقة والذي يجب أن يبقى في إطار العلاقة بين الفرد وربه، وبين الأسلمة السياسية كـ وباء قاتل ومخاطرها على المشروع الوطني السوري التغييري الذي دفع السوريين من أجله كل تلك التضحيات. والهدف الآخر منها هو دفع هذه الظاهرة – الأسلمة السياسية – إلى حقول النقاش الموضوعي – العلمي في أوساط المهتمين من أبناء شعبنا السوري وذلك لما تحملها من الخطورة والحساسية، وكذلك التوقف على أسباب انتعاشها وانتشارها في مفاصل المجتمع السوري والحراك الثوري بعد انطلاق الاحتجاجات الشعبية في أواسط آذار 2011، لانتشال الدين من بين مخالب السياسيين ، وتحرير السياسة من فتاوي الجهلة . وبالتالي البحث عن حوامل هذا الوباء، والجهات التي تشجع هذه الظاهرة محلياً واقليمياً ودولياً . وهنا نذكر المهتمين بأن جماعات الأسلمة السياسية تغيير جلودها حسب البيئة ودون المساس في منهجية تفكيرها أو أهدافها. مثلاً تنظيم الإخوان في ليبيا قام بتغيير اسمه إلى جمعية ” الإحياء والتجديد ” بعد أن وصلت موجة الاحتجاجات إلى ليبيا كنوع من المناورة ومحاولة الإيحاء للشارع الليبي بأن خطوة الجماعة تندرج في إطار فك الارتباط عن قيادة التنظيم العالمي والتأكيد على الخصوصية الوطنية الليبية. ونفس الشيء حصل مع جماعة علي بابير في كوردستان العراق، حيث غير المشاركون في المؤتمر الرابع للجماعة والمنعقد بتاريخ الـ 19 من شباط 2021 إسم حزبهم من الجماعة الإسلامية في كوردستان إلى جماعة العدل الكوردستانية ، وأزالوا كلمة الإسلامية ، كما استبدلوا عبارة الأمير بـ الرئيس الذي هو نفسه ” علي بابير ” زعيم ومؤسس الجماعة دون أن يطال التغيير ميثاق عمل الجماعة وأهدافها، كنوع من المناورة والتلون. وهكذا بالنسبة لفروع القاعدة في سوريا وخاصة جبهة النصرة التي غيرت اسمها أكثر من مرة وتعرف حالياً بـ هيئة تحرير الشام. وجدير ذكره أن الحركات السياسية ذات الطابع الديني تؤمن بالإسلام وتعتمده منهجاً للعمل ونظاماً للحكم، وتعتقد أن الإسلام ليس مجرد عقيدة روحانية فحسب، بل أنه عبارة عن منظومة متكاملة صالحة لبناء المؤسسات وإدارتها لمختلف جوانب الحياة السياسية والاجتماعية والقانونية والاقتصادية…الخ. ونظراً لضيق الآفاق وغياب الرؤى الوطنية الواقعية لدى مختلف جماعات الأسلمة السياسية بشكل عام، وتلك التي استلمت الحكم في بعض الدول التي تم ذكرها، وفشلها في الإدارة حصلت ردات فعل عكسية من جانب مراكز القوى المجتمعية العسكرية والفكرية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية وكانت نتيجتها إزاحة تنظيمات الأسلمة السياسية عن الحكم وإعادة إنتاج نماذج حكم مماثلة لتلك التي حكمت المنطقة لعقود قبل اندلاع ثورات الربيع . الغاية من ذكر بعض الأمثلة ، وطبيعة تلك الحركات هي وضع القارئ الكريم في صورة حقيقة هذه التنظيمات التي تخلط السياسة مع الدين بوعي وتخطيط ،وعدم أهليتها لبناء الأوطان وقيادة المجتمعات والدول وإدارتها. لأنها لاتستطيع العمل خارج حقولها الايديولوجية وبالتالي حكماً ستدفع بالشعوب إلى حالة الانقسام والصراع والاستنزاف الداخلي . نكرر ونقول بأن الغاية من طرح هذا الموضوع ومناقشته،والوقوف على أسباب هذه الظاهرة، والجهات التي تقف خلفها وتشجعها وتمولها ،ليست شيطنة أنصار هذه الديانة التي تنتمي إليها روحياً غالبية الشعب السوري وأنا منهم . لكن وكما أسلفنا، هناك من يريد ان يحول الدين إلى ستار لاستغلاله عبر أدوات مشبوهة لضرب المساعي الهادفة لصياغة المشروع الوطني. ومن الضرورة الاعتراف بأن الصراع بين منصات المعارضة المختلفة ، وتوسيع الهوة بينها هي إحدى الثغرات التي تتنفس من خلالها وتتغذى عليها أجنحة الأسلمة السياسية المتطرفة في بلدنا.
وبعد انطلاقة الثورة السورية بأقل من سنة ونجاح النظام بالتعاون مع أجنحة الأسلمة السياسية في عسكرتها، دخلت الحركات الإسلامية الجهادية على الخط، واستغلت الظروف الإستثنائية والمناخات التي وفرها النظام بغرض إضفاء الطابع السلبي على الاحتجاجات من خلال إظهارها بلبوس إسلامي راديكالي، وكذلك الخطأ القاتل الذي وقعت فيه بعض الجماعات الإسلامية المحلية الناشئة من البذور التي دفنتها بعض أجنحة الإخوان المسلمين في أعماق المكون العربي السني السوري ،والتي بدورها وفرت الغطاء للجماعات الإسلامية الراديكالية المعولمة والوافدة من فروع تنظيم القاعدة وذلك من خلال شعار ” كل من يرفع السلاح في وجه النظام فهو مع الثورة “!.هذه الرؤية ساعدت الراديكاليين على التغلغل في المفاصل الأساسية للحاضنة الثورية ، ثم بدأت بإلتهام الفصائل الثورية، وتلقت الدعم المادي واللوجستي من بعض الجهات الدولية والإقليمية وصولاً إلى إعلان إمارات ودول مزعومة وبالرغم من إنقساماتها التنظيمية إلا إنها بقيت متوافقة من الناحية العنفية والفكرية والعقائدية. ربما الثورة التي بدأت سلمية شعبية محلية من أجل الخلاص من الإستبداد، افتقرت لأيديولوجيا وطنية ناضجة نتيجة الفراغ الفكري الذي كان يعانيه المجتمع السوري بشكل عام والعربي السني بصورة خاصة جراء فشل المشاريع التي رفعها الناصريون والبعثيون، وتوسع مساحة المظاهرات، والعنف الذي اعتمده النظام لمواجهة المدنيين، وجلب النظام للميليشيات الطائفية مثل حزب الله والفصائل الشيعية العراقية والإيرانية ،كل ذلك ساعدت الراديكاليين في الدخول والتغلغل في المجتمع العربي السني واللعب على وتر الصراع الطائفي والادعاء بالدفاع عن الطائفة السنية ودفع المظالم عنها والوقوف في وجه الميليشيات الطائفية الشيعية المذكورة . ربما كان التمايز بين الفصائل المسلحة الإسلامية المحلية الناشئة من جهة وتلك الراديكالية المعولمة الوافدة من جهة أخرى واضحاً في البدايات، ولكن هذا التمايز بدأ يتراجع ومساحة الإختلاف بدأت تختفي مع مرور الوقت، بالرغم من حصول جولات عدة من مشاهد ” فك الإرتباط ” أو ” إستمرارية الولاء والإرتباط ” من قبل كلاً من ” الجولاني والبغدادي “. حتى بتنا اليوم أمام مشهد الإندماج والتجانس شبه التام بين الوافدين والمحليين كون كافة الفصائل المسلحة التي نراها اليوم إما كانت جزءاً من منظومتي ” داعش والنصرة “، أوأنها بايعت ثم إنفصلت ثم عادت وبايعت من جديد وهكذا، كون الموجودين على إختلاف مسمياتهم ينتمون إلى نفس المرجعية العقائدية. لكن بالرغم من كل ذلك بقي صراع خفي بين مشروعين مختلفين،المشروع المحلي القطري السوري الذي رفعه بعض قوى الإسلام المحلي الناشىء ،وبين المشروع العابر للحدود الذي رفعه وعمل من أجله الحركات المعولمة الراديكالية الوافدة. ولم يخلو الأمر من جولات من العنف الدموي بين أصحاب وأنصار المشروعين .ولكن الشعب السوري الذي عرف عنه تاريخياً بأنه يتسم بالتنوع القومي والاعتدال الديني والمذهبي، بات اليوم منقسماً وتتقاتل على خيراته وثرواته أكثر من لاعب دولي وإقليمي، وبات مسلوب الإرادة،مغيباً عن المؤتمرات واللقاءات التي تنعقد بإسمه هنا وهناك. ولكن بالرغم من كل ذلك هناك شريحة لايستهان بها من النخب الفكرية والثقافية للشعب السوري وبمختلف مكوناته القومية والدينية والمذهبية، بأنه مهما حصل ، لن يكون هناك مستقبل للإسلام السياسي الراديكالي في سوريا ، وأن الشعب السوري لن يقبل إلا بدولة مدنية ديمقراطية بالجميع ومن أجل الجميع . وأن مشروع الأسلمة السياسية لايقل خطورة عن مشروع البعث القوموي الشوفيني الذي أقصى مكونات الشعب السوري المختلفة من كورد وتركمان وسريان وآثوريين وجعل من سوريا حاضنة للطائفية السياسية التي أنتجت الدكتاتورية ،وان الأسلمة السياسية كانت السبب المكمل للحل العسكري الذي اختاره النظام للتعامل مع ثورة الشعب السوري، وكانت للأسلمة دور أكثر خطورة في حرف الثورة عن سكتها ومن ثم سرقتها وإلباسها ثوب راديكالي ديني وخلق انطباع لدى الرأي العام العالمي بأن البديل في سوريا هو فرع القاعدة . ومن جهة أخرى فإن مشروع الأسلمة كان سبباً في حدوث انقسامات في صفوف الحاضنة الشعبية المعارضة لأن هناك أتباع ديانات أخرى ليس لهم أية مصلحة في سيطرة هؤلاء على السلطة وخاصة نعلم أن المجتمع السوري متنوع قومياً ودينياً ومذهبياً ، وقيادات الأسلمة السياسية تحمل ” مشروعاً طائفياً ” وتحاول أن ” تختصر ” القضية الوطنية السورية بشخص ” رأس النظام فقط ” كونه ينتمي لـ ” طائفة معينة ” من مكونات الشعب السوري ،أما الحامل للمشروع الوطني السوري التغييري فمشكلته مع منظومة شمولية تتجسد في حزب البعث ومؤسساته المختلفة، وما النظام القائم إلا أحد مفرزات هذه المنظومة التي كانت الحاضنة التي أفرزت الطائفية السياسية، والقضية الوطنية السورية هي قضية التخلص من المنظومة المذكورة وإقامة البديل الوطني الديمقراطي . وهنا تتكامل الأسلمة السياسية مع البعث في منع السوريين من التوصل لمشتركات ورؤى من شأنها التوافق على مشروع وطني سوري تغييري شامل وجامع ومعبر عن وجود وحقوق كامل ألوان الشعب السوري بقومياته وأديانه ومذاهبه .
يتبع ….