نحو صياغة مشروع وطني سوري تغييري جامع وشامل (الجزء الثاني)
شاهين أحمد
نلفت عناية المهتمين الأكارم والقراء الأعزاء بأننا سوف نستمرّ، وعبر حلقاتٍ، في عرض أهم العقبات والعوامل التي عرقلت جهود الوطنيين المخلصين الهادفة لـ صياغة مشروع وطني سوري تغييري جامع وشامل ومعبّر عن وجود وحقوق كافة مكونات الشعب السوري القومية والدينية والمذهبية.
وبالتالي نأمل أن تثير مواضيع هذه السلسلة ردود فعلٍ إيجابية من جانب نخب شعبنا السوري ومن مختلف المكونات، والتفاعل الجدي مع هذا الموضوع لتوليد رؤى وطرح أفكار من شأنها بلورة مشتركات وطنية تشكّل أساساً لإنجاز المشروع الوطني الذي يشكّل المخطط الإنشائي لبناء سوريا الجديدة.
وللتذكير فقط، فإننا خصّصنا الجزء الأول منها حول الأسلمة السياسية ودورها كأحد العوائق التي تعترض سبيل إنجاز المشروع، ونخصص هذا الجزء حول منظومة البعث ودورها السلبي في حياة السوريين وتشتيت شملهم وتسبّبها في إضعاف سوريا وحشرها في زاوية ضيقة، ومن ثم تدميرها وتهجير أهلها.
بدايةً، وتجنباً لأي التباس في هذا الجانب نقول وبمنتهى الوضوح للقارئ الكريم: إنّ مشكلتنا لم تكن يوماً مع العروبة التي تعبّر عن هوية أمة عريقة وشعب عربي جار وصديق، تعرّض هو الآخر وعبر مراحل تاريخية مختلفة لشتى صنوف القهر والظلم مثل غيره من شعوب منطقتنا. ونتفهّم العروبة كحامل للحضارة العربية التي نحترمها ونقدّرها.
ولكن مشكلتنا كانت ومازالت مع النهج القوموي والسياسة الشوفينية المستندة على تلك المفردة البريئة، واستغلالها لاحقاً في إقصاء بقية المكونات القومية في سوريا، وتحوّلها إلى ما يشبه قنبلةً موقوتة زُرِعت في مختلف دساتير سوريا.
سنحاول تسليط الضوء على قضيةٍ في غاية الأهمية والخطورة والجدية وخاصةً في هذه المرحلة التي تجري فيها تحشدات عسكرية مختلفة بعد محاولات التطبيع مع النظام، وقد يشهد الميدان السوري تحولات جزئية معينة وإعادة تموضعات للقوى.
ومن جهةٍ أخرى لا يمكن أن نتفهّم ما يحصل اليوم من مآسي في الميدان السوري دون أن نعود إلى أجواء تشكُّل الدولة السورية والمخاضات التي كانت تحصل في تلك المرحلة وكذلك الحروب الإقليمية والدولية التي كانت نتيجتها تقاسم مناطق النفوذ والسيطرة على المنطقة كونها تحتلّ موقعاً جيو – سياسياً مهماً بالإضافة إلى أنها تحتوي على أهم منابع الطاقة.
والجدير ذكره أنه من بين أكثر من 16محاولة لكتابة دساتير خلال قرن كامل من تاريخ تأسيس الدولة السورية الحديثة، كانت مفردة ” العروبة ” إحدى القنابل الموقوتة التي بقيت تتكرّر منذ وضعها في أول دستور! ومن الضرورة بمكان الإشارة هنا إلى نقطةٍ في غاية الأهمية وهي المتعلقة بسر اختيار الإنكليز والفرنسيين لمفردتي العروبة والإسلام ووضعهما في الدستور الأول لسوريا، والدوافع التي كانت خلف هذا الاختيار.
وقد يستغرب البعض حول مدى حاجة الإنكليز والفرنسيين لهكذا مسائل ووضع مصطلحات محددة في عقدٍ اجتماعي لمستعمرة ضعيفة، وخاصة في تلك المرحلة التي كانت فيها شعوب المنطقة في حالة من الضعف والأمية السياسية و الثقافية والفكرية، بينما بريطانيا وفرنسا كانتا في أوج قوتهما وجبروتهما؟. والإجابة على هذا السؤال الكبير تتطلّب العودة إلى مناخات تلك المرحلة والتحولات التي شهدتها الساحة الدولية والتحالفات التي كانت قائمة بين الدولة العثمانية وألمانيا (قوى المركز) والصراع الدموي بين قوى المركز من جهة، وبين قوى الوفاق ( الحلفاء ) المكوّنة من الفرنسيين والإنكليز وغيرهم من جهةٍ أخرى.
وما تمثّلها هذه المفردة ( العروبة ) لشعبٍ كبير ومنتشر على مساحات جيو – سياسية كبيرة وبالتالي مساهمتها في عملية الاستقطاب المطلوبة لمحاربة نفوذ قوى المركز بشكل عام والدولة العثمانية بصورة خاصة.
ونجاح الإنكليز ومن ثم الفرنسيين في أهدافهم المتعلّقة بوضع هذه المفردة في متن الدستور الأول واستمرارية ذلك في الدساتير اللاحقة وخاصةً بعد ظهور عبد الناصر ومشروعه القومي العروبي المعروف، وكذلك ظهور حزب البعث ومشروعه الشوفيني الهدّام اللذين أغرقا معاً المنطقة في دوامةٍ من الصراعات الدموية نتيجة إقصاء المكونات الأصيلة من غير العرب من المشاركة في الإدارة والحكم .
والجميع يعلم بأنّ الدولة السورية الحالية بحدودها السياسية والإدارية المعروفة، هي نتاج التقسيمات التي تعرّضت لها مناطق مختلفة من العالم، ومنها تركة الدولة العثمانية وذلك خلال الحرب العالمية الأولى وبموجب اتفاقيات دولية معروفة مثل سايكس – بيكو لعام 1916 ولوزان لعام 1923 وطبقاً لمصالح المنتصرين في تلك الحرب ورغماً عن إرادة شعوب سوريا والمنطقة.
ولم تشهد سوريا حياة سياسية ديمقراطية حقيقية منذ ما قبل الانقلاب الأول للبعث عام 1963وحتى اليوم، حيث شكّل البعث والأحزاب الموالية له بعد الانقلاب الثالث بداية السبعينات من القرن العشرين تحالفاً تحت مسمّى الجبهة الوطنية التقدمية كنوعٍ من تعددية سياسية مكذوبة، واحتكر البعث من خلال الجبهة المذكورة أكثر من ثلثي مقاعد البرلمان السوري المعروف بـ مجلس الشعب والذي يضمّ 250 عضواً، ويخصّص 83 مقعداً للمستقلين الذين هم في غالبيتهم الساحقة من الموالين للبعث، حيث يتمّ تعيينهم بموجب قوائم خاصة(قوائم الظل)، ومازالت سوريا تعيش في ظل حالة الطوارئ والأحكام العرفية منذ قرابة ستة عقود.
واعتمد البعث خلال حقبته على جملة مرتكزات أيديولوجية – حزبية، وكذلك أمنية وعسكرية لحمايته ودوام سيطرته على المفاصل الأساسية للدولة والمجتمع، حيث شكّل الحزب الواجهة السياسية- المدنية للنظام، بينما تولّى الأمن والعسكر مهمة حماية الحكم. وبعد انطلاقة الثورة السورية في آذار 2011 وظهور تنسيقيات شبابية وحراك جماهيري سلمي شكّل بارقة أمل لتشكيل لوحة سورية مستقبلية مختلفة عن حقبة البعث، إلا أنّ المشهد سرعان ما تراجع وشابه الارتباك والتردد شيئاً فشيئاً مع مرور الوقت بعد سيطرة التحالفات التي حصلت بين بعض أجنحة الأسلمة السياسية مع الوافدين من الأجهزة الأمنية للبعث الحاكم وتسللها إلى جسد المعارضة ومؤسساتها المختلفة.
بدون أدنى شك أنّ قيام حياة سياسية ديمقراطية سليمة ونشوء تعبيرات سياسية- تنظيمية ناضجة ومختلفة وقادرة على التصدي لمهام المرحلة، وتصحيح ما تمّ تشويهه في مجتمع غيّبت عنه المناخات السياسية والديمقراطية اللازمة، وعاش حالة من التصحر السياسي طوال أكثر من ستة عقودٍ في ظل الدكتاتورية والشمولية، تستغرق الكثير من الوقت، وتحتاج لمزيدٍ من الجهد والإمكانات، وكذلك فإنّ بلورة مشهد سياسي مختلف تحتاج وقتاً أيضاً، لكن بكل أسف لم نتلمّس عملياً حتى اللحظة هذا التحول المطلوب في ذهنية غالبية الشرائح المتصدّرة للمشهدين الموالي والمعارض، كون المتصدرين في غالبيتهم الساحقة ذهنيتهم مبنية وفق المنطلقات الفكرية لمنظومة البعث .
وندرك أنّ الثورات يصاحبها غالباً مخاض سياسي يؤدّي إلى ظهور ولادات جديدة ومختلفة نسبياً ،بحكم المواجهة الطبيعية والحتمية بين القوى القديمة للمنظومة الحاكمة وتوابعها من جهة، والجديدة بمختلف تياراتها الفكرية والسياسية من جهةٍ أخرى، ولكن في الحالة السورية ورغم التضحيات الجسيمة والمخاض القاسي جداً ولكن بكل أسف لم نتلمّس حتى الآن أي أمل في حصول ولادات سياسية – تنظيمية مختلفة في الأوساط العربية السورية .
وبديهي أنّ الثورات عادةً تهدم البنى الفكرية والثقافية والسياسية والأمنية للمنظومات الحاكمة ثم تقيم على أنقاضها بنى جديدة مغايرة ، إلا في الحالة السورية مازالت النخب المنتمية للمكون العربي الكريم تردّد نفس شعارات البعث !.
وخلال قرنٍ كامل من عمر الدولة السورية الحديثة، وبعد أكثر من 16 محاولة لصياغة دساتير لسوريا منذ تأسيسها وكتابة نحو عشرة غالبيتها كانت منسوخة ومكررة، ومنها ما كانت جديدة ومفصّلة حسب مصالح وإرادة المتحكمين بشؤون المنطقة، ولم يكن لغالبية السوريين الأصلاء فيها أي رأي أو تأثير، حاول هؤلاء الذين فرضوا تلك الدساتير على بلدنا، القفز فوق الواقع وحشر سوريا في زاوية ضيقة وإلباسها لوناً قومياً يتيماً ؛ لإضعافها وتجريدها من قوتها وألوانها الجميلة وإلغاء تاريخها وخصوصيات مكوناتها وأصالتها.
وبما أننا أمام مشهد جديد قد يكرّر فيه التاريخ نفسه، حيث قد تفرض تسوية جزئية معينة يوماً وإيجاد ثغرة أو إنجاز اختراق في جدار الأزمة المستعصية لبلدنا، وكتابة مسودة عقد اجتماعي جديد بالرغم من أنّ البلد مقسّم فعلياً إلى ثلاث دويلات، لكل واحدة قوانينها وجيوشها وحكوماتها وعلاقاتها المستقلة ،ومازالت هناك على أرض سوريا جيوش خمس دول، والموت يشكّل جزءاً أساسياً من حياة السوريين، والآفاق باتت مسدودة لأية حلول سياسية حقيقيةً، والسوريون مغيّبون تماماً عن كلّ ما يخصّ بلدهم ومستقبلهم، والسوري هو المادة الأساسية في نيران مصالح اللاعبين ويُستثمر في أجندات ومشاريع لا مصلحة له ولا لبلده فيها، وكلّ ما يجري باسمه وباسم بلده من مؤتمرات لدوام الأزمة وإدارتها، وبعد أن فشلت كلّ المساعي الرامية لإيجاد حلول حقيقية، نتيجة ترك المجتمع الدولي كلّ القرارات الأممية الخاصة بسوريا وخاصةً القرار 2254، ومرجعية جنيف 1 للحل، ومن ثم السلال الأربعة، وتمّ التركيز على سلة واحدة لم تكن الأولى في سلم الترتيب والأولويات وهي سلة الدستور، محاولين تجميع الحروف المخضّبة بالدم السوري في صياغاتٍ تعكس مصالح هؤلاء اللاعبين.
وكي نكون واقعيين كوننا لا نستطيع أن نواجه العالم أجمع، لذلك علينا أن نعمل معاً لتجنيب شعبنا المزيد من المآسي وتكرار الأخطاء التي كانت سبباً في وصول بلدنا إلى هذه الحالة الكارثية، وأن نعمل على تشخيص الأسباب وتحديد الجهات التي كانت سبباً في إدخال سوريا نفق الشوفينية والإقصاء وحرمان غالبية مكوناتها من المشاركة في عملية البناء والإدارة والحكم .
وبما أنّ الدستور هو أم القوانين، وهو العقد الناظم للعلاقة بين كلّ المكونات وكذلك بين الحاكم والمحكوم ، وبالتالي أساس المشروع الوطني الذي يتضمّن الضوابط الناظمة في إطار الدولة والأساس لكلّ القوانين الناظمة للعلاقة بين السلطات المختلفة ويحدّد هوية الدولة وشكلها ونظام الحكم فيها، لذلك علينا كسوريين التفكير خارج حقول رؤية البعث الفكرية والسياسية، والعمل على صياغة مشروعٍ وفق مفردات الشراكة والتوافق وإرادة الجميع وثقافة قبول الآخر المختلف، والتوافق بين المعنيين في إطار الدولة، والإقرار بأنّ منظومة البعث كانت ومازالت تشكّل أحد أهم عوامل الشرخ المجتمعي بين مكونات الشعب السوري المختلفة، وتشكّل إحدى أهم العقبات أمام صياغة عقد اجتماعي وطني سوري جامع وشامل ومعبّر عن وجود وحقوق جميع مكونات الشعب السوري، وكانت تلك المنظومة سبباً أساسياً جعلت تلك المكونات تتخوّف بصورةٍٍ جدية في مدى إمكانية التعايش معاً وفي دولةٍ واحدة مستقبلاً .
وهنا يجد السوري نفسه أمام جملة أسئلة منها : بعد أكثر من ستة عقود من حكم البعث و 13 عاماً من عمر الثورة السورية، هل وصلت النخب المتصدّرة للمشهدين المعارض والموالي إلى قناعةٍ بأنّ الموروث الفكري للبعث هو أحد أهم أسباب فشلهم في إنقاذ الشعب؛ وبالتالي ضرورة المراجعة والوقوف على الأسباب وتغيير الذهنيات، وصياغة مشروع وطني حقيقي بعيد عن رؤية البعث ؟.
وهل تستطيع الأطراف التي تسيطر على مؤسسات المعارضة السورية الخروج من الحقول الفكرية للبعث وقوالبها والتفكير بطريقة مختلفة فيما يتعلّق بالقضايا الوطنية الهامة و الأساسية من شكل الدولة السورية وطبيعة نظام الحكم فيها ووجود وحقوق كافة مكونات الشعب السوري القومية والدينية والمذهبية ؟.
ومن الضرورة بمكان التذكير هنا بأننا لا نريد شيطنة كافة منتسبي البعث لأننا نتفهّم الظروف التي فرضها البعث على السوريين، وجعل من الانتساب لهذا الحزب المسار شبه الوحيد لاستلام المناصب وشغل المراكز، ولا ننسى بأنّ العمل في مجالات مهمة للقطاع العام كان مشروطاً بالانتساب لصفوف البعث؛ مما كان السبب في وجود شرائح لابأس بها في صفوفه من منطلق تأمين لقمة العيش .
وبنفس القدر لا ننسى أعداد غير قليلة من أولئك الذين انتسبوا إلى صفوفه وتحوّلوا إلى كتّاب تقارير للفروع الأمنية وألحقوا أضراراً بشرائح واسعة من شعبنا .
وكذلك الذين استولوا على كافة مراكز القرار والمناصب المهمة والحسّاسة. وتلك الأقلام التي مازالت تبثّ سمومها في أوساط السوريين وتفرّق صفوفهم وتحاول تزوير حقائق التاريخ .
إذاً عندما نقول بأنّ منظومة البعث هي إحدى العقبات أمام صياغة المشروع الوطني فإننا لا نقصد شخوصها فحسب بل مرتكزاتها الفكرية وسياساتها المدمّرة التي شوّهت الإنسان السوري وكانت السبب في تشتيت شمل السوريين وقتلهم وتدمير بلدهم، وبالتالي فإنّ البعث عبارة عن ذهنية وطريقة تفكير وسلوك وليس فقط عضوية تنظيمية، ومن هنا نلاحظ أنّ عدد البعثيين خارج تنظيمات الحزب لا يقلّ عن عددهم داخله.
بمعنى آخر مشكلتنا الأساسية كـ سوريين مع المرتكزات الفكرية والموروث الثقافي والسياسات الكارثية والذهنية الشوفينية الإقصائية وليس فقط مع الأشخاص.
يتبع ….
المقال منشور في جريدة يكيتي العدد “310“