نظام الأسد إلى تحوّل والمعارضة إلى أقل توقّعاتها
عبد الوهــاب بدرخـــان
الأرجح أننا لم نتعرف بعد إلى التغيير الحاصل وحجمه ومضمونه، وبالطبع لن يتّضح مؤدّاه إلا بعد ارتسام ملمح واقعي وعملي للتقارب الأميركي – الروسي بالنسبة إلى سورية، أو بعد تأكّد صرامة إدارة دونالد ترامب حيال إيران. لذلك، يؤخَذ الغموض وسيلة لتأويل بعض الأحداث، ومنها مثلاً أن روسيا لا تمارس ضغوطاً على نظام بشار الأسد ليفهم وإنما توجّه إليه، بواسطة الآخرين، إشارات أو ضربات، علّه يفهم أن مرحلة الخطة الإيرانية ولّت وأن مرحلة الخطة الروسية بدأت، وعليه أن يتكيّف معها. صحيح أن موسكو لم تغيّر توجهها الرئيسي المعتمد على حاجتها إلى «شرعية» الأسد، وبصفته «الحكومة السورية» التي تتعامل معها، لكن الأصحّ أنها أبلغت الكثير من الأطراف منذ بدايات تدخّلها أنها تريد اعادة جمع العسكريين، موالين وما أمكن من المنشقين ومن الميليشيات التي أنشأها الإيرانيون، في جسم جيش واحد. وبعد معركة حلب بات هدفها دفع حلفائها وخصومها إلى قبول أجندتها، أي أنها لم ترسل طائراتها وضباطها ولم تقِم قواعدها من أجل خدمة الأسد والإيرانيين.
حتى غداة جمع فصائل المعارضة المسلحة مع وفد النظام إلى طاولة واحدة في «آستانة 1»، لم يصدق الأسد والإيرانيون أن عليهم مراجعة خططهم السابقة، فبالنسبة إلى الروس انتهى الصراع الداخلي في حلب، وكل ما بعد ذلك سيكون حرباً على الجماعات الإرهابية، ومن هنا الاستعانة بتركيا، وكذلك بالأردن، وبوحدات «الجيش السوري الحرّ» المرتبطة بهاتين الدولتين. لم يكن مفهوماً جيداً ما هو الموقف الروسي من التصعيد الذي افتعله النظام والميليشيات الإيرانية في وادي بردى وأدى إلى هز الثقة باتفاق وقف النار، لكن التسوية النهائية وإن كانت مجحفة في حق أهل وادي بردى تمت بطريقة مقبولة لدى الروس الذين حبذوا دائماً «الهدنات» – «المصالحات» التي رتبها النظام في بعض نواحي الغوطة. وعشية «آستانة 2»، تعمّد النظام القيام بأوسع انتهاكات للهدنة «السارية» رسمياً، كما أرفقها بمناورات (الاحتكاك بقوات «درع الفرات» خلال اقتحامها دفاعات «داعش» في الباب، إرسال قوات لطرد «داعش» من تدمر، وخرق الهدنة في درعا…) آملاً بالضغط على الروس وإقناعهم بدعمه لاستعادة بعض المواقع. وما دفعه إلى ذلك أن «آستانة 2» يُفترض أن تكرّس «تثبيت» وقف النار وطرح «الآلية الثلاثية» لمراقبته، أي أن الروس يفعلون هذه المرة ما لم يفعلوه سابقاً: وقف نار شامل تمهيداً لمفاوضات جنيف.
ما تختلف عليه روسيا ونظام الأسد هو النظرة إلى وقف النار. فالنظام يرى في توقف القتال نهايته إلى حدٍّ ما، خصوصاً إذا كان إيذاناً باقتراب البحث في حل سياسي، وما يعمّق إحباطه أن القرار ليس قراره، أما الروس فيعتبرون وقف النار بداية مرحلة سعوا إليها وشاءت الظروف أن ينفردوا بتولي هندستها، في انتظار عودة «الشريك» الأميركي وما لديه من معطيات جديدة في التعاطي مع الملف السوري. بطبيعة الحال، ليس للمعارضة أن تتوقع تغييراً في المفهوم الروسي للحل السياسي، فهو لا يزال يتصوّر هذا الحل منبثقاً من النظام، تحديداً من حكومته، وباتت موسكو معتمدة على موافقات علنية أو مكتومة من أنقرة وعمّان والقاهرة وبدرجة أقل أو بعدم ممانعة من عواصم أخرى. ولا تضم هذه القائمة طهران، وإنْ كانت إحدى الدول «الضامنة» وقفَ النار، والأكيد أنها تجري مراجعة للمتغيرات إقليمياً ودولياً، فهي من جهة تواجه على الأرض السورية (وإلى حدٍّ ما في العراق) حقائق غير متوقّعة كما ترى للمرة الأولى أمراً واقعاً لم تصنعه ولا يناسبها، ومن جهة أخرى فإن معارضة روسيا العقوبات الأميركية ونفي سيرغي لافروف تورطها في دعم الإرهاب وسائلها للتعامل مع «الأيام الصعبة» التي أشار إليها محمد جواد ظريف لا تبدو كافية أو مناسبة لتحقيق «انتصارات» على أميركا دونالد ترامب.
بلغ نظام الأسد، وكذلك إيران، لحظة الحقيقة التي تهربا منها طويلاً ورواغا كثيراً لتأجيلها بل لتبديدها. فحتى الحل السياسي الذي يسعى إليه الحليف الروسي لا يناسبهما، حتى لو كان أدنى من طموحات المعارضة. ذاك أن الوضع الدائم، إذا كان له أن يستقرّ في سورية، لا يمكن أن يكون في تثبيت الوضع الشاذ الذي كان قائماً حتى عشية اندلاع الانتفاضة الشعبية. ومع أنه لن يكون «حكماً انتقالياً» خالصاً وفقاً لـ «جنيف 1»، كما تتمناه المعارضة، فإنه لن يكون استمرارية لحكم الأسد وبحكومته المعدلة، والأهم أن لا مجال لاستئنافه بالبنية العسكرية – الأمنية ذاتها ولا بأشخاصها أنفسهم. بدهي أن التغيير لن يكون فورياً وفجائياً، فالأوضاع التي انتهى إليها الصراع المسلح تعصى على الانضباط السريع، بل ينبغي إعطاء «المجلس العسكري» الفرصة الكاملة والوقت الطبيعي لإعادة هيكلة الجيش والأمن.
لا يعني ذلك أن حلاً كهذا بات جاهزاً، أو أن هذا ما سيتفق عليه في مفاوضات جنيف. ولعل التنبؤ المبكر لوزير الخارجية الفرنسي بأن «جنيف المقبلة» سيكون «محبطاً»، يعكس نظرة مختلف العواصم المعنية إلى المفاوضات المزمعة، إذ تعتبر أن شيئاً جوهرياً لم يتغيّر، حتى بعد معركة حلب، فبعد فوات الأوان لا يُعول على النظام لاستدراك ما لم يدركه في الأسابيع الأولى للأزمة، وبعد منع المعارضة من تحقيق أهدافها عسكرياً لا يمكن حرمانها من المطالبة بحقوقها البدهية. لكن التعارض العميق بين توقّعات المعارضة والنظام يمنع «صيغة جنيف» من إنتاج حلّ، لذلك يبدو أن موسكو، وواشنطن على الأرجح، باتتا تعتبران أن جولة جديدة في جنيف لن تجدي، بالتالي قد يميل الأميركيون إلى صيغة «صلح العسكريين» التي يحاول الروس بلورتها بالتركيز (مع الأتراك) على الفصائل المعارضة، لكنهم لن يفعّلوها إلا بعد أن تظهر «جنيف السياسيين» بأنها عديمة الفائدة، ومن الجانبين.
لعل مجرّد وجود الفصائل المسلحة في الصورة، وفي مختلف السيناريوات، إلى جانب الجيش الذي صار عملياً في كنف الروس، شكّل النبأ السيئ الذي حاولت طهران إبعاد شبحه على الدوام. انتهى موسم الأحلام، ولم يعد وجود الميليشيات الإيرانية سوى عنوان لمرحلة تشارف الأفول، وإذا كان رحيلها مطلباً طبيعياً للمعارضة فإن مشاعر رفضها ومقتها تتصاعد في أوساط الموالين وتنسحب على الأسد وأعوانه، ولم يعودوا يخفونها، ففي حماية الروس لا خوف على النظام ولا حاجة إلى وجود الإيرانيين. ومن دون أي عمل عدائي ضدهم بات هؤلاء مدركين أن مستقبلهم لم يعد مضموناً في سورية، بل إنهم يلحّون على الروس لنيل بعض الضمانات لـ «مصالح» يعتبرونها بالغة الحيوية، كالحفاظ على المنطقة الحدودية الوسطى مع لبنان تحت سيطرة «حزب الله» بذريعة أمنه في مواجهة إسرائيل. وهي المنطقة التي دعا «الحزب» النازحين منها إلى العودة إليها بضمانته، إلا أنهم يطالبون بضمانات روسية وأوروبية وأممية.
يبقى أن إيران ستواصل الرهان على فشل التقارب الأميركي – الروسي، باعتبار أنه سيبقي روسيا في حاجة موقتة إلى خدماتها في معالجة بعض جوانب الوضع السوري. إذ كان الطموح الإيراني أن تغدو ميليشياته شريكاً لا غنى عنه في الحرب على «داعش»، بل إنها راهنت على دور كهذا لإنجاز الربط الاستراتيجي من طهران إلى بغداد فدمشق فبيروت. لكن المجريات الراهنة لهذه الحرب تعطي تركيا دوراً أكبر، بسبب موقعها الحدودي ووجود قوات برية سورية لديها، ما لا تستطيع الدولتان الكبريان تجاهله. ثم إن أميركا ترامب لا تبدو مستعدة للاستعانة بإيران حتى في المواجهة مع «داعش» بل تعتبرها راعية للإرهاب. وفي أي حال باتت كل الأطراف المعنية بإضعاف «داعش» أو القضاء عليه تعتبر أن إيران بدت في الأعوام الأخيرة الطرف الوحيد المستفيد من ظهور هذا التنظيم وانتشاره.
الحياة
جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي يكيتي ميديا