أحزاننا الكردية … أحزابنا الكردية
هوشنك أوسي
لي حكايات مريرة في نقد الحركة السياسيّة الكرديّة في تركيا وسورية والعراق. دائماً كان يوصف هذا النقد، في الحدود الدنيا، بأنه «ليس أوانه» و «يخدم الأعداء»، و «مصدره الحقد ومبتغاه الهدم والحطّ» و «غير موضوعي»… ثم ترفق تلك النعوت، بوصفات في النقد المطلوب «البناء» على مقاس بوصلة الأحزاب. وهذه الأحزاب متعددة البوصلات سياسيّاً وأيديولوجيّاً ومنفعيّاً وتخندقاً. فما لا يراه «العمال الكردستاني» مناسباً من نقدٍ يُقال في حقّه، قد يراه «الديموقراطي الكردستاني» مناسباً جداً، بل هو المطلوب، وقمّة حريّة الرأي والتعبير!. كذلك، ما لا يراه «الديموقراطي الكردستاني» مناسباً قد يهلل ويطبّل له «العمال الكردستاني» و «الاتحاد الوطني الكردستاني» (جناح ملا بتخيار – هيرو خان طالباني). وهكذا دواليك تكر سبحة الأحزاب الكرديّة في التعاطي مع الفعل النقدي لأدائها وسياساتها، من أصغرها ميكروسكوبيّة إلى أضخمها كونيّة في الأفكار والمشاريع والخزعبلات الطوباويّة التي تطرحها!
الحقّ أن أكثر الأحزاب الكرديّة حديثاً عن حريّة الرأي والتعبير والفكر الحر والديموقراطيّة وبقية الشعارات العابرة للقارات، هو «العمال الكردستاني»، وهو أكثر الأحزاب احتقاراً وسحقاً لحركة النقد إن هي طاولته، لكنه الأشد دفاعاً عنها إن هي بقت محصورة في تناول تجربة «الديموقراطي الكردستاني» وتفرّعاته داخل الأراضي السوريّة، حتى لو وصل النقد بحقّ الأخير وزعيمه مسعود بارزاني إلى درجة الشيطنة والتخوين!
عام 2008 انتقدتُ الحركة السياسيّة الكرديّة في سورية، وعدتُ في ما يشبه المراجعة النقديّة إلى الأصل والنشأة، وصولاً الى ما كانت وما زالت عليه هذه الحركة من بؤس وتضعضع. وقتذاك، تنطّحت كتائب المحازبين كتّاباً ومثقّفين وأشباه «مستقلّين» للدفاع عن هذه الحركة، وقالوا في محاولة النقد تلك، ما ذكرته أعلاه من أوصاف ونعوت، انحدرت في بعض الأحيان إلى التخوين وهدر الكرامة. هذه الذهنيّة والطريقة في ردّ النقد والالتفاف على مناقشة ما يطرحه من معلومة وتحليل واستنتاج، والانزلاق نحو النقض عبر الطعن والتشكيك في النيات، كانت لسان حال أغلب الردود وقتذاك.
منذ ما يزيد على خمس سنوات، وأنا أمارس حقّي في التعبير عن رأيي وانتقد حزب «العمال الكردستاني» بعد افتضاح ملابسات غدر هذا الحزب بثورة الحريّة والكرامة في سورية، وتحالفه مع نظام الأسد، حيث حدث الافتراق السياسي والفكري بيني وبين الحزب الذي كنت موالياً له ومدافعاً عنه لأكثر من عشرين سنة. ونشرت «الحياة» «العشرات من المقالات التي انتقدت فيها «الكردستاني» وفرعه السوري (الاتحاد الديموقراطي) بالرأي المستند إلى المعلومة الموثّقة المستقاة من تاريخ الحزب وأدبياته ومنابره الإعلاميّة. طيلة هذه المدّة، اتهمني أعوان «العمال الكردستاني» وفرعه السوري، بما اتهمني به أعوان الأحزاب الكرديّة عام 2008. إلى ذلك لم أجد ردّاً متوازناً، منطقيّاً، يستند إلى الحجّة والدليل واحترام الاختلاف، ويتوخّى الحقيقة والموضوعيّة، يصدر من أي من الكتّاب او المسوؤلين المحسوبين على هذا الحزب، لا على صفحات «الحياة» ولا في منابر أخرى. على العكس، شُنّت حملات من التسفيه والتشهير بحقّ كاتب على هذه الأسطر، على مواقع التواصل الاجتماعي، عبر الدفع بأناس موتورين فاقدين لأبسط درجات اللباقة وآداب إدارة الاختلاف والتباين في الرأي. هذه الحملات كانت مصحوبة بالكثير من رسائل التهديد بالقتل والتصفية الجسدية التي كانت تصلني على الـ «إيميل» أو الـ «فايسبوك».
ومن الطبيعي أن ينفي الحزب عِلمه بحملات الترهيب والتشويه تلك. بل من غير الطبيعي أن يعترف بأنه يقف وراءها. لكن من غير الطبيعي أيضاً أن يكون حزب يساريّ – قتاليّ – يمارس العنف الفعلي واللفظي، وتاريخه زاخر بالتصفيات الداخليّة، بعيداً تماماً من استهداف كاتب، كان ذات يوم محسوباً عليه، والآن ينتقده في العمق.
اللافت أن الأحزاب الكرديّة الأخرى، ووسط حملة التضامن من كتّاب وأدباء وصحافيين ونشطاء وساسة…، أكراد وعرب: سوريين، مصريين، مغاربة، فلسطينيين وعراقيين…، وتنديدهم بالترهيب والتشويه والتهديد المشار إليها، بقيت صامتة، كأنّ الأمر لا يعنيها، وكأنّه شأن داخلي وخلاف بين حزب وكاتب «منشقّ» عنه؟!
ثمّة تفسير واحد لهذا الصمت مفاده أن هذه الأحزاب، هي أيضاً، ولو بنسب متفاوتة، مارست القمع بحق الكتّاب المنشقّين عنها، والذين انتقدوها. وإذا تضامنت مع كاتب هذا المقال، فإنها تضع نفسها في خانة المساءلة حيال ما مارسته بحقّ كتّابها المنشقّين عنها؟
قصارى الكلام: ما جرى الحديث عنه آنفاً، هو تفصيل جد هامشي وبسيط، مما تعانيه هذه الأحزاب الكرديّة، مع عدم إغفال حجم الضغوط والسطوة والتسلّط التي تمارسها سلطة «الاتحاد الديموقراطي». وربما كان الأقرب إلى توصيف الحال الكرديّة في شكل عام أن أحزابنا الكرديّة هي جزء رئيس وأصيل من أحزاننا الكرديّة.
الحياة
جميع المقالات المنشورة تعبر عــن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عــن رأي يكيتي ميديا