آراء

ألمانيا ودعم الكورد في مواجهة “الدولة الإسلامية”

بعد حربين عالميتين تم فيهما سفك دم الملايين من البشر، وتدميرٌ رهيب للبنى التحتية والعمران في العديد من الدول، وجرت فيهما مذابح يندى لها جبين الإنسانية، حيث استخدم السلاح الكيميائي في ساحات القتال وفي أفران الغاز التي أبيد بها اليهود فيما يعرف ب”الهولوكوست”، قرر الألمان وضع دستورٍ لبلادهم بعد الحرب العالمية الثانية يؤكّد على عدم انتهاج سياساتٍ تمهّد للحروب أو تؤججها أو تساعد في نشوبها، لأن ألمانيا كانت أهم الدول التي حدثت بسبب سياساتها الخاطئة تلك الفظائع ضد الإنسانية. ولذلك فإن الألمان لا يشعرون فقط بذنبٍ كبير، وإنما يحاولون تقييد أطماع صناعتهم العسكرية قانونياً تلك التي تسعى لجعل بيع السلاح أحد أهم أعمدة الاقتصاد الوطني لبلادهم وأهم مصدرٍ لثراء أصحابها الصناعيين.
النقاش الذي دار البارحة في البرلمان الاتحادي الألماني (البوندستاغ) يصادف ذكرى بدء الهجوم النازي عسكرياً على الدولة الجارة بولونيا في 1 سبتمبر 1939، ولذا فإن اختياره مهم جداً للتباحث حول ما إذا كان القرار الذي اتخذته حكومة المستشارة أنجيلا ميركل البارحة بصدد “دعم الكورد في العراق بالعتاد والسلاح”، في اجتماعٍ ضم مسؤولين كبار وعدة وزراء في الحكومة المشتركة بين حزبها الاتحاد المسيحي الديموقراطي (CDU) والحزب الاشتراكي الديموقراطي (SPD) وحزب الاتحاد الاشتراكي المسيحي (CSU) وتم فيه تقرير مشروع الدعم العسكري على الرغم من أنه سيزيد من الانشقاق السياسي الكبير بين أحزاب الحكومة والمعارضة.
في نقاش البارحة الذي حضر مشاهدته والاستماع إليه وفود من الأقليات الدينية والقومية في العراق، ومنها اليزيديون، الآشوريون، الكلدانيون، السريان، العلويون، الشبك، إضافةً إلى ممثلين عن السنة والشيعة، كان عدد نواب البوندستاغ الحاضرين كبيراً بالنسبة إلى اجتماعاتٍ أخرى تناقش فيها موضوعات سياسية هامة، وهذا دليل على اهتمام الألمان وشريحتهم السياسية الفاعلة بموضوع تقديم السلاح لجهاتٍ مساهمةٍ في القتال في بؤر الصراعات المسلّحة في العالم، حيث هناك عرف سياسي في ألمانيا التزمت به الحكومات السابقة حتى الآن، ألا وهو الامتناع عن شحن أو بيع الأسلحة إلى هذه البؤر التي تسيل فيها دماء البشر وتتعرّض البلدان للدمار وتتم حملات التهجير والإبادة العرقية أو الدينية، كما حدث فيما مضى في رواندا والبوسنه – هرسنك مثلاً.
لم يكن قليلاً عدد المتحدثين، وكانوا ممن يتسلمون مناصب هامة في مجالات العمل السياسي الخارجي والعمل الإغاثي ضمن أحزابهم، أو في الحكومة، أو لكونهم مسؤولين في قيادات المعارضة. وحزبا المعارضة هما حزب الخضر والحزب اليساري، أمّا الاوّل فقد تحوّل من حركة شبابية قامت بالتظاهرات ضد انتشار المفاعلات النووية في البلاد وضد إفساد البيئة، واحتكت جيداً بالحركات الطلابية للشعوب المختلفة من مختلف أنحاء العالم، وكذلك التنظيمات اليسارية والمجموعات المختلفة من الشيوعيين والاشتراكيين الألمان، فاكتسبت خبرات جيدة في موضوعاتٍ خارجية عديدة كالقضيتين الفلسطينية والكوردية، وجذبت إلى صفوفها الكثير من الطلاب والعمال الأجانب، وتمكنت حركة “الخضر” مع الأيام من المساهمة في حكومات الولايات العديدة بفضل النظام الفيدرالي في البلاد، وشاركت مع أحزابٍ أوروبية مماثلة في بناء تكتل “أخضر” في برلمان الاتحاد الأوروبي، كما شاركت الاشتراكيين الديموقراطيين لفترةٍ من الزمن في تشكيل الحكومة الاتحادية الألمانية، واشتهر من بين مسؤولي الخضر من اعتبره الكورد أصدقاء لشعبهم ومؤيدين بنضالاتهم من أجل الحرية وحقوق الإنسان، وفي مقدمتهم السيدة كلاوديا روث التي أطلقتُ عليها منذ البارحة اسم “ماما أوباما”، فهي تطالب مثل أوباما بإيجاد “استراتيجية” وكأنها لم تشعر بخطورة ما يحدث في سوريا والعراق بعد كل هذه المذابح والمجازر، وأخبرتها بأن موقفها سيء وخاطىء من خلال مقالٍ ساخن بالألمانية كتبته أول أمس وأرسلته بعد منتصف الليل لها عن طريق موقعها الفيسبوكي وإلى الأحزاب الألمانية التي لها تكتلات في البرلمان معبّراً عن خيبة أملي من مواقفها تجاه موضوع “دعم البيشمركه الكورد في وجه داعش”، بعد سنواتٍ طويلة من تأييد الكورد لها ولحزبها. أما الحزب اليساري فهو من بقايا الحزب الشيوعي الألماني الذي كان يحكم ألمانيا الشرقية قبل انهيار الشيوعية وتوحيد ألمانيا.
في الكلمات التي ألقيت في هذه الجلسة الهامة لم يتطرّق أحد إلى الموقف من النظام السوري ووحشيته ومجازره التي يرتكبها، إلا أن الزعيم اليساري غريغور غيزي الشيوعي العريق قد لمّح إلى أن قطع الحكومة الألمانية لكل الصلات بالنظام السوري كان خاطئاّ، فلربما كانت ستستفيد من تلك العلاقات اليوم. إلاّ أن السيدة المستشارة أنجيلا ميركل قالت بأنها حكومة بلادها ستقوم بكل ما يقع على عاتقها من أن أجل لا تنفرط مكوّنات الدولة العراقية ولا تنهار، وأنها ستتعاون مع كل العراقيين في سبيل ذلك وتلتزم بقرار حكومتها القاضي بدعم البيشمركه الكورد في دفاعهم المستميت ضد الهجمات الإرهابية للدولة الإسلامية.
كان موقف أعضاء حزبها مثل فيليب فيسفيلدر وفولكر كاودر، الشخصية الهامة في حزب الاتحاد الديموقراطي المسيحي، الذي ألقى كلمةً ارتجالية قوية ومعبرّة فعلاً عن المأساة الحقيقية للاجئين على أرض الواقع ومدح السيد البارزاني ونقل أقواله ومطالبه إلى البرلمان الألماني وركّز على ضرورة دعم البيشمركه التي تدافع عن المواطنين من مختلف الأديان والأقوام بأسلحة متواضعة في وجه سلاحٍ أمريكي متطوّر وقع في أيادي الدولة الإسلامية حصل عليها من الجيش العراقي، مما جعل الإرهابيين يجبرون بعض قوات البيشمركة في البداية على التراجع في بعض المواقع كما حدث في أطراف شنكال، وليس لأن البيشمركة رفضوا الدفاع عن اليزيديين. وإن الإرهابيين قد استغلوا سياسة عدم التدخل الدولي، ونمو قواهم ليس كما زعم غريغور غيزي نتيجة غزو العراق في عام 2003، وإنما نتيجة انهزام الجيش العراقي أمامهم. وقال السيد فولكر كاودر الذي بدا متأثراً بما رآه بعينيه على أرض الواقع في كوردستان بأنه سيشك بوجود الاتحاد الأوروبي إن لم يتمكن من تقديم مساعدة من خلال دوله العديدة بحدود 200-300 مليون أويرو.
كما أن موقف حزب الاتحاد الاشتراكي المسيحي (CSU) المتحالف أبداً مع الاتحاد الديموقراطي المسيحي، فقد عبًر عنه السيد غيرد هاسلفيلدت بكلمة مختصرة ولم يختلف عن موقف الحزب الحليف وشريكه في الحكم، في حين أن الحزب الاشتراكي الديموقراطي (SPD) الذي منه السيد وزير الخارجية فرانك – فالتر شتاينماير والذي زار كوردستان وعاد بانطباعٍ إيجابي عن الكورد وحكومتهم وموقف رئيسهم، كما بدا متأثراً أيضاً لما شاهده منذ عودته، فقد كان موقفاً جيداً يعكس تطوّراً ملحوظاً في سياسة هذا الحزب حيال الكورد، فقد قال السيد توماس أوبرمان باسم الاشتراكيين الديموقراطيين مادحاً شجاعة البيشمركه وقدرتهم على إيقاف تقدّم داعش في وقت انهزام الجيش العراقي أمامه، وردّ على غريغور غيزي الذي زعم بأن الصناعة العسكرية تريد جني الأرباح من تسويق السلاح فقال موجهاً وجهه صوبه: هذه الأسلحة (وهي إجمالاً بحدود 70 مليون أويرو!) ليست بغرض التجارة ياغيزي وإنما هي هبة للبيشمركه، وإننا في هذا الظرف الاستثنائي لا نخرق قانوننا الذي ينص على عدم إرسال السلاح إلى بؤر التوتر في العالم، حيث أن هذا القانون ذاته ينص على معالجة كل وضعٍ على حدة، بمعنى أنه يتضمن التصرّف استثنائياً، وهذا ما نقوم به الآن فعلاً.
وقد كانت مواقف كلٍ من فرانك شفابى وراينر أرنولد من الحزب الاشتراكي الديموقراطي، وكذلك السيد هينيغ أوتى من الاتحاد الديموقراطي المسيحي مفندة ومعاكسة لموقف اليساريين والخضر ومؤيدة بقوة لرفاقهم الذين سبقوهم في الحديث.
حاول المتحدثون باسم اليساريين وحزب الخضر إظهار البيشمركه الكوردية كمليشيات حزبية وذات خلافات، كما فعل السيد أوميد نوري بور (من الخضر) ووقف بشدة ضد تسليحها، في حين أن السيدة نيلز آنن (من اليساري) دعت إلى تسليح حزب العمال الكوردستاني، وليس البيشمركه، وزعمت بأنه الحزب الوحيد الصامد في وجه داعش، بينما أقرّ آنتون هوفرايتر (من الخضر) بأن هناك حملة إرهابية كبيرة وبأن البيشمركة يقاتلون في وجهها وأن على ألمانيا القيام بما يستدعيه الموقف، ولكن يجب أن يتم ذلك عن طريق الأمم المتحدة، وكأنه أراد بذلك الطرح تأجيل تسليح الكورد بأي شكلٍ كان رغم فداحة الأخطار.
السيد هانز كريستيان شتروبيلى من حزب الخضر الشهير بمواقفه اليسارية العريقة ودفاعه عن الأقليات والأجانب وحتى الإرهابيين اليساريين في بلاده كمحامٍ قدير، رفع يده لمقاطعة أحد المتكلمين محاولاً استغلال الظرف للحديث عن ضرورة فك القيود عن حركة حزب العمال الكوردستاني (PKK) في ألمانيا لأنه يقاتل ضد الدولة الإسلامية واعتبر دعم البيشمركه دون حزب العمال متناقضاً مع الدعوة للوقوف ضد داعش، فلم يهتم أحد بمطلبه ذاك.
قلة هم الذين ذكروا “كوردستان” في كلماتهم، في حين ذكر معظمهم “شمال العراق”، ولكن “كوردستان” ذكرت أكثر من مرة، وهذا جديد في البرلمان الاتحادي الألماني، إلاّ أن ما يحز في النفس هو زعم حزب الخضر الذي يطالب في الإعلام بصراحةٍ، بعد أن كان يعتبر صديقاً للشعب الكوردي منذ نشوئه، بعدم “تسليح البيشمركة لأن البارزاني سيسعى بذلك إلى إقامة دولة كوردية مستقلة!”، وهذا ما ورد على لسان السيدة “ماما أوباما” في مقابلة صحافية والسيد يورغن تريتين في ندوة تلفزيونية، قبل انعقاد الجلسة البرلمانية هذه، وهما من أعمدة حزب الخضر بلا شك. في حين أن السيدة وزيرة دفاع ألمانيا أورزولا فون دير لاين (من الاتحاد الديموقراطي المسيحي) كانت في ذات الندوة تمدح شجاعة البيشمركة وتدعو إلى ضرورة دعم صمودهم البطولي في وجه إرهاب داعش.
وأتذكر جيداً كيف عقد مؤسسو حزب الخضر اجتماعاً واسعاً وهاماً في مطعمٍ متواضعٍ “شهرزاد” كنت أملكه بشراكة مع البعض في ثمانينات القرن الماضي، في مدينة بون التي كانت عاصمة اتحادية لألمانيا آنذاك، وكيف كان أصدقاء لي من حزب الخضر يدعونني للانتساب إلى حزبهم عبر الأيام، هذا الحزب الذي “يعلم عن معاناة الشعب الكوردي ويدافع عن حقه في تقرير مصيره بنفسه”، فكنت أجيبهم بأن الكورد يقدّرون كل المواقف الإيجابية حيال قضيتهم العادلة، والكورد لا ينسون من مدّ إليهم يد العون والمساعدة في تحقيق طموحاتهم القومية العادلة، ولذا أعتقد أن تسارع شبابنا للانتساب إلى الأحزاب الأوربية يجب أن يكون بعد طول تفكير، كما يفعل الأتراك والعرب والفرس الذين لن ينتسبوا إلى حزبٍ يعادي سياسات أنظمتهم العنصرية ضد الكورد.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى