أهداف زيارة جاويش أوغلو لواشنطن
تأتي زيارة مولود جاويش أوغلو لواشنطن، في مرحلة سباق الحكومة التركية بقيادة حزب العدالة والتنمية مع الزمن، لتحقيق مقدماتٍ تخدم إعادة انتخاب الرئيس أردوغان وحزبه، سيما وأن الانتخابات التركية التي موعدها المقرر في حزيران 2023، هي انتخابات حاسمة بالنسبة لحكومة حزب العدالة والتنمية، إذ لم تنجز هذه الحكومة بعد، كل برنامجها التنموي بصوره المتعددة (الاقتصادي والعسكري/ الأمني والسياسي)، وهذا ما يجعلها في حركة دائبة لإغلاق الملفات، التي قد تأتي منها خسارتها للانتخابات القادمة.
لعل الملفّ العسكري الأمني يأتي في مقدمة الملفات، التي تريد حكومة أردوغان إغلاقها قبل الانتخابات، أي جعلها تخدم إعادة انتخاب حزب العدالة والتنمية، وانتخاب الرئيس للمرة الأخيرة كما أعلن ذلك بنفسه، ويأتي ملف العلاقات التركية الإقليمية والدولية كملفٍ ثانٍ في حسابات الانتخابات، وهذا ظهر جلياً في الانعطافة التركية حيال دول الإقليم، وحيال علاقاتها الدولية.
الملف العسكري / الأمني هاجس تركيا الدائم، فخطر حزب العمال الكردستاني لا يزال حاضراً في حسابات الحكومة التركية. هذا الخطر، ظهر بصورة ميليشيا تدعمها الولايات المتحدة الأمريكية في سورية، وهي “وحدات الحماية” التي تشكل العمود الفقري لـ”قسد”.
قسد وتهديداتها لتركيا ستكون محور محادثات معمّقة بين أوغلو والأمريكيين، والأمر ليس محصوراً بهذا الجانب فحسب، بل أن المحادثات ستتناول جوهر الانعطافة التركية الجديدة حيال مسألة التطبيع مع نظام أسد، والذي تشتغل عليه روسيا، ويزعج الأمريكيين، الذين لا يريدون لقطار التطبيع مع نظام ارتكب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية أن يقلع، لهذا ستكون مهمة أوغلو ليست سهلة، وليست صعبة، ستحتاج إلى دراية تركية بحاجات الولايات المتحدة حيال ملفات عديدة، يأتي في أولها ملف الحرب الروسية على أوكرانيا، وملف بيع تركيا لطائرات إف 16.
الولايات المتحدة لن ترعى طويلاً ميليشيا قسد، وبالتالي يمكنها تقديم تنازلات في هذا الملف للأتراك، مقابل تنازلات تركية حيال التقارب أكثر مع الروس، ولا سيما في سورية، فالأمريكيون في عهد ترامب أرادوا الانسحاب من سورية، وهذا أرعب قسد، ولذلك لا مبدأية أمريكية في شأن الحفاظ على هذه الميليشيا، فهي بالنسبة لهم ليست حليفاً استراتيجياً، بل لعبت وفق المشيئة الأمريكية دوراً وظيفياً يخدم السياسة الأمريكية في سورية.
أوغلو الذي يرأس الديبلوماسية التركية، يُدرك أن قطع صيرورة علاقات بلاده مع الأمريكيين وحلف الناتو ليست في مصلحة أنقرة، ولهذا، فهو سيجهد في المحادثات مع الأمريكيين للحصول على أكبر قدر من التنازلات السياسية الأمريكية في الملفات المختلف عليها بينهما، وإن خسارة حليف بحجم الولايات المتحدة في هذه المرحلة، أو على الأقل إبقاء الفتور والتوتر بينهما، سيضعف ميل الناخب التركي لانتخاب حزب العدالة من جديد.
ولهذا يمكن قراءة توقيت زيارة أوغلو على أنه توقيت حسابات ربح وخسارة، قياساً لاجتماعٍ متوقع بين تركيا وروسيا ونظام أسد على مستوى وزراء الخارجية، فالأتراك يريدون تحقيق أكبر قدرٍ من الربح السياسي، دون الاضطرار إلى تغيير عميق في اتجاه مؤشر بوصلتهم السياسية، وفي نفس الوقت يريدون تغييراً في مؤشر بوصلة الأمريكيين بما يخدم هدف حساباتهم الانتخابية.
الأتراك ليسوا في موقع ضعف، وهم لا يرون نظام أسد في موقع الند، وكل ما يريدونه من التقارب مع نظام أسد هو تحقيق قضيتين في آن واحد يعجز هذا النظام عن توفيرهما، وهي عودة اللاجئين السوريين إلى بلادهم، ومحاربة قسد.
قضية اللاجئين تتعلق بقرار دولي، يحتاج إلى توفير بيئة آمنة، وهذا لن يتغير في ظل نظام أسد، ولذلك يدرك الأتراك أن هذا النظام لا يريد عودة اللاجئين، لأنه أساساً يماطل ويسوّف في تنفيذ القرار 2254، والذي تسعى تركيا إلى إجبار أسد على الانخراط بتنفيذه، في ظلّ عجزه المهول عن تلبية ابسط شروط الحياة في مناطقه.
وقضية محاربة قسد لن يستطيع النظام الأسدي القيام بها، لأنه يعرف أن الولايات المتحدة الأمريكية لن تسمح له بمثل هكذا محاولة، ولذلك سيضطر إلى توسيع اتفاقية أضنة مع تركيا، ليقوم الأتراك بطرد هذه الميليشيات إلى عمق ثلاثين كم، ما يعني بداية نهايتها الوظيفية التي أنشئت من أجلها.
والسؤال الأهم، هل سينجح أوغلو بتحقيق اختراق ملموس في جدار السياسة الأمريكية الحالية، ليحدث بعدها تغيّر في مؤشر بوصلة هذه السياسة من تركيا؟
إن أوراقاً كثيرة يمتلكها الأتراك في هذه المرحلة، ويحتاج الأمريكيون للاستفادة منها، ولعل في مقدمة هذه الأوراق ورقة العلاقات التركية مع روسيا، إذ يمكن للأتراك التأثير على الروس لمصلحة تحقيق اختراق سياسي لوقف الحرب في أوكرانيا، وهذا يخفّف من تكاليف هذه الحرب على الأمريكيين والأوربيين، ويمنع في الوقت نفسه توسيع رقعة هذه الحرب.
كذلك يحتاج الروس للأتراك بمسألة تسويق منتجاتهم من النفط والغاز، وهذا الأمر لا يريد الروس أن يخسروه، كي لا تزيد قبضة العقوبات الغربية على اقتصادهم.
إن نظام أسد الذي أعلن رأسه عن التنصل من التقارب مع تركيا، إنما يتنصّل من الحاجة الروسية لإغلاق هذا الملف بمساعدة تركيا، فيذهب للإيرانيين لعلهم ينجدوه من هذه الضغوطات، لكن زيارة لافرنتييف مبعوث بوتين إلى دمشق كانت الغاية منها إبلاغ أسد بضرورة الانصياع للرغبة الروسية بالتقارب مع تركيا.
أوراق كثيرة بيد تركيا، وهي بديبلوماسيتها ستوظّف هذه الأوراق في تحقيق أهداف متعددة، يكون في مقدمتها حسم الانتخابات التركية القادمة لمصلحة التجديد لحزب العدالة والتنمية وحلفه قبل أن تبدأ.
بقي أن نقول لا شيء سيبقى مجهولاً بعد زيارة أوغلو إلى واشنطن، وما سينتج عنها سيحدّد مسار اتجاهات السياسة التركية في ظلّ هذه المرحلة الحاسمة.
السورية نت