أهمية المراجعات الكُردية في عشرية الثورة السورية
عبدالباسط سيدا
مع انطلاقة الثورة السورية السلمية 15-18 آذار/مارس 2011 كانت أنظار السوريين بصورةٍ عامة متّجهةً نحو الكُرد، ودورهم الفاعل المرتقَب في الثورة؛ وذلك بعد أن كانوا قد قدّموا عبر انتفاضة قامشلو 12 آذار 2004 نموذجاً غير مسبوقٍ على المستوى السوري، تمثَّّل في المظاهرات والاحتجاجات التي شارك فيها الكُرد بكثافةٍ في بلدات ومدن المناطق الكُردية، خاصةً في قامشلي. كما امتدّت المظاهرات إلى المدن الكبرى مثل دمشق وحلب حيث يتواجد الكُرد؛ بل شملت المظاهرات العواصم والمدن الكبرى في العالم حيث وجود الجاليات الكُردية.
لقد حطّم الكُرد عبر هذه الانتفاضة حاجز الخوف في مواجهة استبداد سلطةٍ لم تتوانَ عن إطلاق الرصاص الحيّ على المتظاهرين والناشطين الكُرد، الأمر الذي أدّى إلى استشهاد أكثر من 30 شاباً كُردياً.
كما بيَّنت هذه الانتفاضة للرأي العام على المستوى السوري، وعلى المستويين الإقليمي والدولي حجم وأبعاد القضية الكُردية في سوريا. وتبيّن للجميع أنّ المزاعم التي كان النظام يسوقها حول محدودية الوجود الكُردي وعابريته في سوريا لا أساس لها من الصحّة، رغم أنها كانت “تُدعم” في بعض الأحيان بتصريحاتٍ من جانب بعض قادة الأحزاب الكُردية غير السورية، من أولئك الذين كانوا قد نسجوا علاقاتٍ مصلحية وظيفية مع النظام.
ورغم تفاعل الشباب الكُردي السوري في مختلف المناطق مع الثورة بصورةٍ لافتة، خاصةً في المناطق الكُردية حيث تشكّلت التنسيقيات الشبابية، وكانت المظاهرات والاعتصامات التي شارك فيها الكثير من قواعد الأحزاب الكُردية السورية في بداية الأمر. إلا أنّ الأحزاب الكُردية لم تقرأ المشهد كما ينبغي؛ وظلّت متردّدةً، الأمر الذي أحدث خيبة أملٍ كبرى عند السوريين الثائرين على حكم النظام، وقد كانت غالبيتهم في المرحلة السلمية المدنية من الثورة من المتعاطفين مع القضية الكُردية. ورغم الجهود الكبيرة التي بُذلِت من أجل إقناع المجلس الوطني الكُردي لاحقاً بالانضمام إلى المجلس الوطني السوري، لم نصل بكلّ أسفٍ إلى نتيجةٍ في الوقت المطلوب.
ففي البدايات، كما نتذكّر جميعاً، كانت الثورة سلمية، ولم تكن القوى المتطرّفة قد ظهرت بعدُ، ولم تكن الشعارات الإسلاموية هي الطاغية المهيمنة، ولم يكن هناك أيّ تشنجٍ عربي كُردي تسبّب فيه لاحقاً بعض المتطرّفين من الجانبين بفعل فاعلٍ في معظم الأحيان، ولخدمة أهدافٍ لم تكن في صالح السوريين والكُرد السوريين وثورتهم.
ولكنّ النظام من جهته كان يعمل منذ اليوم الأول على إبعاد سائر المكونات المجتمعية السورية ما عدا المكوّن العربي السنّي عن الثورة، وكانت خطّته تشمل إطلاق سراح الكثير من المتطرّفين المعتقلين في سجونه؛ وسهَّل مهمة دخول وانتشار الكثير من المتطرّفين من خارج سوريا، ليتمكّنوا من السيطرة على المناطق التي كانت قوات النظام قد اضطرّت للانسحاب منها، خاصةً في محافظات الحسكة والرقة ودير الزور.
كما أنه عمل منذ اليوم الأول على إدخال قوات حزب العمال الكُردستاني إلى المناطق الكُردية باسم قوات حماية الشعب (قسد لاحقاً)، وتحت يافطة فرعه السوري “حزب الاتحاد الديمقراطي”؛ وذلك ليتولّى أمر ضبط المناطق المعنية عبر تهميش، إن لم نقل إلغاء دور الأحزاب الكُردية السورية، والتنسيقيات الشبابية المتعاطفة مع الثورة.
ونحن هنا لسنا بصدد التفصيل في التطورات التي حصلت، حتى وصلنا إلى الوضع الراهن، وإنما ما ندعو إليه هو ضرورة إجراء مراجعة نقدية جريئة من جانب قيادات الأحزاب الكُردية لمواقفها التي كانت، حتى نتمكّن من تحديد المطلوب راهناً.
القضية الكُردية السورية هي في نهاية المطاف ضمن المعادلات الوطنية والإقليمية والدولية القائمة قضية وطنية سورية، تُحلُّ ضمن الإطار الوطني السوري، وعلى أساس احترام الخصوصية والحقوق السياسية والثقافية والإدارية؛ وبما يضمن مشاركةً حقيقية عادلة في الإدارة والاستفادة من الموارد.
الحالة التي تعيشها سوريا في يومنا هذا غير طبيعية، إذ تتواجد على الأرض السورية جيوش أجنبية من دولٍ عدة؛ كما تتواجد عليها الميليشيات المذهبية سواءً اللبنانية أم العراقية والباكستانية والأفغانية، هذا إلى جانب جبهة النصرة وأخواتها.
لكنّ الثورة السورية لم تنتهِ كما يروّج بعضهم، بل أنها تعرّضت لانتكاساتٍ كبرى نتيجة أخطاءٍ كارثية عديدة لا يتّسع المجال هنا للوقوف عندها بدقائقها. وفي الجهة المقابلة لم ينتصر النظام أبداً كما يتشدّق ويروّج، بل هو اليوم في أضعف حالاته؛ يتعرّض لتآكلٍ داخلي وهو يواجه أزمةً اقتصادية عميقة على المستوى السوري العام. أزمةً تسبّب فيها بنفسه، بفساده وإفساده، وإعلانه الحرب على الشعب السوري.
عشرة أعوامٍ والاقتصاد السوري معطّل، بل يتعرّض لنزفٍ كبيرٍ، وتتراكم ديون الحرب، وتسعى روسيا وإيران لانتزاع المكاسب الممكنة.
وما يُستشَفُّ من المناقشات الجارية بين السوريين عبر مختلف الوسائل، يؤكّد أنّ النخب السورية قد توصّلت إلى قناعةٍ بضرورة القطع مع لغة التطرّف والشعارات سواءً القوموية منها أم الإسلاموية؛ وهناك حديثٌ مستمرٌّ حول أهمية بلورة معالم مشروعٍ وطني سوري يكون بالجميع وللجميع. ومن هنا تأتي أهمية توحيد الموقف الكُردي السوري ليكون في مستوى التحديات القادمة. موقفٌ يركّز على ضرورة الإقرار بالحقّ الكُردي ضمن الإطار الوطني السوري العام، واعتماد الشكل الإداري المناسب الذي يبدّد الهواجس، ويعزّز الثقة، مع الاتفاق على آليةٍ لحلّ الخلافات ضمن الأطر الدستورية والقانونية.
وبناءً على ذلك تُطرح قضية الارتباط بين حزب الاتحاد الديمقراطي وحزب العمال الكُردستاني؛ لأننا إذا أردنا الخير لكُرد سوريا لا يمكننا بأيّ شكلٍ من الأشكال أن نحوّل قضيتهم إلى ورقةٍ ضمن حساباتٍ إقليمية، لا تراعي مصلحة الكُرد السوريين، ولا مصلحة السوريين بصورةٍ عامة.
التطورات في منطقتنا متسارعة، والأمور في تغيّرٍ مستمرٍّ، لذلك ينبغي أن يتابع الكُرد السوريون، والسوريون بصورةٍ عامة المتغيرات والتطورات، وأن يستعدّوا من موقع الفاعل لمختلف الاحتمالات، وهذا ما يستوجب لغةً وطنية جامعة، تطمئن سائر المكونات المجتمعية السورية من دون أيّ استثناءٍ. لغةٌ تعزّزها خطواتٌ عملية على الأرض ترسّخ الثقة المتبادَلة، وتؤكّد إمكانية تعايش السوريين بكلّ مكوناتهم الدينية والقومية والمذهبية، رغم كلّ ما حصل، في إطار وطنٍ يكون حاضناً لهم جميعاً؛ وفي ظلّ نظامٍ سياسي ديمقراطي تعدّدي، يضمن مقوّمات العيش الحرّ الكريم لجميع المواطنين من دون أيّ استثناءٍ أو تمييزٍ، ويفتح الآفاق أمام الجيل الشاب والأجيال المقبلة.