آراء

أينما يعلو صوت الكورد تعلو حراب الحكومات التركية

عبدالباقي اليوسف
هذا ما شهدناه بعيد فوز حزب الشعوب الديموقراطية (هـ د ب) الكردي في الإنتخابات التشريعية الماضية في تركيا. فلقد كان المتتبعون يتفاءلون بأن تفضي نتائج الإنتخابات التشريعية ودخول حزب الشعوب الديموقراطية البرلمان الى فتح الطريق نحو حل القضية الكردية في تركيا بالطرق السلمية وتحت قبة البرلمان، طالما ان الحكومة أعربت عن نيتها، وبادرت بالحوار مع زعيم حزب العمال الكردستاني الذي يقبع في السجن.
إلا ان الرئيس التركي رجب طيب آردوغان الذي اعتبر صاحب مبادرة السلام مع الكرد، أظهر مواقف معاكسة خلال الحملات الانتخابية (على رغم ان القانون في تركيا يفرض على الرئيس أن يكون محايداً)، وذلك بإلقاء الخطابات النارية في التجمعات الجماهيرية. وقد صبّ جلّ غضبه على حزب الشعوب الديموقراطية فيما كانت الإستقراءات الإنتخابية ترجح إجتيازه حاجز الـ10 في المئة لدخول البرلمان.
كان المأمول من حزب العدالة والتنمية ومنذ وصوله الى سدة الحكم عبر صناديق الإنتخاب أن يصبح نموذجاً للأحزاب الإسلامية في المنطقة ولتقبل اللعبة الديموقراطية في إدارة بلدانها. وتفاءل الكثيرون وبشكل خاص الكرد بأن تنتهج تركيا سياسات جديدة أكثر واقعية واعتدالاً تجاه المسألة الكردية في المنطقة في ظل حكم هذا الحزب، بخاصة وأن أحمد داود أوغلو صاحب نظرية «صفر مشكلات» والذي كان وزيرالخارجية سابقاً، استلم رئاسة الحزب أخيراً.
كذلك تفاءل الكثير من المحللين الكرد بحكم حزب العدالة والتنمية بخاصة لانفتاحه الإقتصادي ثم السياسي على إقليم كردستان العراق، آملين أن تفتح تركيا صفحة جديدة في تعاملها مع المسألة الكردية عموما، وفي تركيا خصوصاً، طالما أن حكوماتها منذ عهد مصطفى كمال أتاتورك لم تستطع تصفية تلك المسألة، على رغم استخدامها أحياناً الإبادة الجماعية والتهجير القسري. لا بل تفاقمت المسألة الكردية لتصبح اليوم من أهم قضايا الشرق الأوسط.
لكن الانتخابات التشريعية الأخيرة وما نتج عنها من تراجع في شعبية العدالة والتنمية أسفرا عن حقائق عدة أهمها أن هذا الحزب الإسلامي غير ملتزم جوهرياً باللعبة الديموقراطية، لكنه ملزم بها بسبب نظام الحكم في الدولة التركية، والعضوية في حلف الناتو، والعقيدة العلمانية للجيش لا تسمح له بالإنقلاب على الدستور. هذا السلوك تجلى في الحورات الاخيرة مع حزب الشعب الجمهوري لتشكيل الحكومة، عندما كشف كلشدار أوغلو في نهايتها بأن حزب «العدالة والتنمية» لا ينوي تشكيل حكومة إئتلافية دائمة، بل فقط حكومة لمدة ثلاثة أشهر تحضّر لانتخابات مبكرة. لهذا، ومنذ صدور نتائج الإنتخابات الأخيرة يختلق «العدالة والتنمية» المشكلات مع حزب الشعوب الديموقراطية، خصوصاً في المناطق الكردية، وكان آخرها اعلان آردوغان إنهاء العملية السلمية مع العمال الكردستاني، والبدء بقصف مواقعه. وكل ذلك لإثارة المشاعر القومية لدى بسطاء الترك كي يكسب الأصوات اللازمة في الإنتخابات، أملاً في الحصول على ما يتيح له التفرد بالحكم من جديد، وتأمين النسبة المطلوبة لتغيير نظام الحكم إلى نظام رئاسي.
من جهة ثانية هناك أحداث عدة تكشف أن حكّام تركيا اليوم ولغاية اللحظة لم يتحرروا من عقدة الأنظمة السابقة حيال المسألة الكردية والانفتاح لبناء استقرار في تركيا والمنطقة، وأنهم فقط يراوغون حتى تتسنى لهم الفرصة المناسبة لضربها. وأول هذه الاحداث أنه على رغم تطميناتهم السابقة لحكومة إقليم كردستان لجهة مساندتها إذا ما تعرضت لأي مكروه، فعند هجوم «داعش» على الإقليم كان الموقف التركي هو التفرج، ولم يقدم أي عون لحكومة الإقليم بحجة أسر «داعش» لطاقم قنصليتهم في الموصل. لكنْ كشف في ما بعد عن سيناريو خطة قديمة بين حكومة «العدالة والتنمية» وحكومة الإخوان المسلمين في مصر في عهد الرئيس مرسي حول الوضع في العراق وإقليم كردستان. وما يرجح هذا السيناريو كان الموقف المعارض الذي أبداه الرئيس التركي آردوغان أثناء قيام القوى الدولية بقيادة الولايات المتحدة بقصف قوات «داعش» أثناء هجومها المباغت على الاقليم. فقد برر اردوغان اعتراضه بـ»ضرورة إعادة التوازن الى المنطقة».
وثانياً، هناك تصريحات آردوغان المتكررة ضد التحالف الدولي اثناء تحرير كوباني، وأثناء تحرير كري سبي (تل أبيض) من «داعش»، واتهامه قوات الحماية الشعبية بتغيير ديموغرافية المنطقة، وبتهجير العرب من المدينة. وهذا بينما لم نسمع من آردوغان أي تصريح مماثل عند دخول «داعش» البلدة نفسها وإنذاره للكرد بضرورة إخلائها وإلا فسيواجهون الموت.
وثالثاً، هناك المحاولات التركية القديمة والجديدة منذ اندلاع الثورة السورية لإنشاء منطقة آمنة في الأراضي السورية، وعدم مشاركة أنقرة في الحرب ضد «داعش» على رغم الدلائل الكثيرة على علاقة الاستخبارات التركية بهذا التنظيم، وهو ما لم يتغير إلا في الآونة الأخيرة عندما سمحت للطائرات الأميركية بإستخدام قاعدة انجرليك في الحرب ضد «داعش». وأنقرة تستهدف بالأساس من وراء ذلك السماح لها بإنشاء منطقة عازلة ابتداء من جرابلس حتى حدود منطقة عفرين، وبعمق 45 كيلومتراً من الحدود التركية – السورية، وذلك لتجميع وإسكان التركمان السوريين تحت غطاء إسكان اللاجئين السوريين وقوات المعارضة السورية، كما لاستخدام التركمان أداة ضد المكونات السورية إذا ما تطلب الأمر ذلك يوماً ما. و إلا متى كانت تركيا تدافع عن التركمان من خارج منظار مصالحها. فما جرى لهم في كركوك في عهد صدام حسين والموقف التركي المتفرج السلبي حيالهم لا يزال ماثلاً أمام أعين الجميع.
المقالة تم اقتباسها من جريدة الحياة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى