آراء

إحاطات “بيدرسن” بالميزان السوري

يحيى العريضي

مشهود للسيد “بيدرسن” بخبرته الدبلوماسية الرفيعة المعمَّقة؛ والتي مارسها بإتقان سابقا، ولاحقاً منذ تعيينه مبعوثاً دولياً للقضية السورية. في إحاطته لمجلس الأمن، منذ يومين، كان منسوب الدبلوماسية مرتفعاً بشكل ملحوظ.

حقيقة، نتفهم أسباب استخدام السيد “بيدرسن” للغة دبلوماسية طريّة تجلَّت باللجوء إلى صيغة المبني للمجهول، لإشاحة الطرف عن الفاعل، مركزاً على نتائج الفعل وأوصافه. فيقول/ في سوريا موت-ودمار-ونزوح-واعتقال-وتعذيب-وإهانة-وفقر…./ أما مَن قَتَلَ ودمَّر واقتلع وهجَّر وعذّب وأفقر، فلا ذكر له.

نقدّر للمبعوث الدولي مجرد ذكره للمعاناة السورية، واهتمامه بإبقاء القضية حيّة في ردهات المحفل الأممي؛ وخاصة استمرار ذكره للمعتقلين، وضرورة الإفراج عنهم؛ وهذه مسألة يُشكَر عليها.

ندرك في الوقت نفسه أنه ومَن يسمعه يعرفون الفاعل، ومَن تسبب بكل هذه المآسي. ونستوعب حرص الرجل على عدم تسمية الأمور أحياناً بمسمياتها، بغية جذب هذا الفاعل إلى العملية السياسية، وعدم توفير أية ذريعة له، كي يتملّص من العملية بحجة “افتراء” المبعوث الدولي عليها؛ فالقضية “سورية-سورية”!

يعرف السيد المبعوث أن المجلس الذي يخاطبه قد تمَّ أخذه رهينة، وأُوصِدَت أبوابه من قبل أحد الأعضاء تجاه أي قرار أو إجراء يدين الفاعل ويحق الحق لأناس يتحدث السيد بيدرسن عن معاناتهم، ويصفها بالرهيبة. وفي الوقت ذاته يلاطف حامل مفتاح المجلس بالتودد “لتعاونه” أبان زيارته الأخيرة إلى موسكو.

حتى لو التمسنا عذراً للمبعوث الدولي في عدم تسميته الأمور بمسمياتها، لسنا مضطرين أن نكون دبلوماسيين معه، بحيث لا نسمي الأمور بمسمياتها؛ فنحن فعلا حريصون على نجاحه. وهذا يدفعنا للقول إن مجرد انعقاد اللجنة بعد تسعة أشهر من الانقطاع ليس إنجازاً ليذكره في إحاطته؛ ولا المناقشات الإنشائية والمزايدات- حتى ولو كانت
كيف يريد السيد بيدرسن جولة رابعة وخامسة وسادسة، كما جاء في إحاطته، وهناك مَن لم يمنحه أو يوافق له حتى على انعقاد جلسة قادمة؟!

طرية وهادئة-يمكن تسميتها بالإنجاز؛ فهو ذاته يقول إن تلك النقاشات كانت موضوعية من حيث الشكل، ولكنها “من حيث المضمون كان هناك خلافات”. فهل كان سيؤذي مهمته إيضاح سبب هذه الخلافات؟! وهل هو إخلال بالدبلوماسية، لو قال بأن هناك طرفاً لا يريد العملية السياسية، ولا يريد الانخراط بها، وليس حضوره إلا لتمرير الوقت وتضييعه؟!

كيف يريد السيد بيدرسن جولة رابعة وخامسة وسادسة، كما جاء في إحاطته، وهناك مَن لم يمنحه أو يوافق له حتى على انعقاد جلسة قادمة؟! كيف يكون دعم موسكو للعملية السياسية، عندما نسمع “لافروف” في دمشق يقول خلال زيارته لها إنه ليس هناك حد أو إطار زمني لانتهاء اللجنة من عملها؟ فهل لهذا استحقت روسيا الإشادة بجهودها في الاهتمام “بإنجاح” عمل اللجنة!!

لم يتحدث الرجل في إحاطته فقط عن عدم الاتفاق على جدول أعمال للجولة القادمة، ولا عن إمكانية حتى الاستمرار بمناقشة جدول الأعمال الهلامي ذاته، والذي تم “تلبيصه” في الجولة السابقة؛ بل وجد نفسه مضطراً للتذكير بالقواعد الإجرائية، والمعايير المرجعية لعمل اللجنة، لأنه حتى ذلك لا تتم مجرد مراعاته أو الالتزام به؛ وتحديداً من قبل وفد النظام الذي لا يزال يصر على تسمية نفسه “بالوفد الوطني”.

اللافت في مداخلة المبعوث الدولي، كما في السابقات، تواصلاته بدول كثيرة شاكراً مقاماتهم العالية وأدوارهم المهمة، مناشدا إياهم الوقوف إلى جانب جهوده: الأميركيون، الروس، دول أستانا، دول المجموعة المصغرة. يظهر ذلك فعلياً درجة تعقيد مهمة الرجل؛ ولكن لا ندري إن كان الأمر يستلزم رضى كل هؤلاء وتنفيذ مصالحهم، أم قيامه بمهمته المحددة والمتمثلة بإنقاذ بلد وشعبه من الظلم والدمار والتشريد والمرض والعوز والذل، الذي تحدث عنه في إحاطته!!
لقد كان ربع تلك الإحاطة عن فيروس كورونا، وضرورة دعم السوريين لمواجهة هذه الجائحة الرهيبة. لعلم السيد بيدرسن -الذي يحرص أن يكون دبلوماسياً جداً عند مجرد ذكر نظام الأسد- أن هذا النظام يستغل هذه المصيبة في ممارسة المزيد من الاستبداد والاضطهاد والإذلال عبر استغلال السوريين وسرقتهم وحتى الخلاص منهم. لا ندري إذا كان قد وقع على مسامع السيد بيدرسن أن النظام يبتز السوري بمئة دولار لفحص كورونا، وكي يتمكن من دخول بلده.

في إحاطته الأخيرة- وكما في السابقات- يشير المبعوث الدولي إلى فشل الحل العسكري، ويؤكد أن الحل السياسي هو الوحيد الذي يعيد وحدة سوريا وسلامتها وسيادتها أرضاً وشعباً واقتصاداً وعودةً للحياة؛ ولكن في الوقت نفسه يرى ضرورة وجود عملية سياسية “أكثر جدوى” مذكراً بضرورة التطبيق الكامل للقرار الدولي 2254. وهنا حقيقة نريد تفسيراً لعملية سياسية “أكثر جدوى”.

إذا كان نظام الاستبداد- الذي يعامله السيد بيدرسن بكثير من الدبلوماسية- يفعل كل ما يفعل تجاه العملية السياسية، بنية إيصاله إلى حالة إحباط تنهي العملية، ويرتاح؛ على المبعوث أن يسمي الأمور بمسمياتها، ويضع المجلس أمام مسؤولياته؛ فقرارات هذا المجلس ومصداقيته أضحتا على المحك.

من جانبهم، السوريون، الذين يريدون استعادة بلدهم، يقولون للعالم وللمجلس الذي يخاطبه السيد المبعوث-وبدون دبلوماسية- إن هذه القرارات من صناعتهم، وتحمل توقيعهم، وتعكس مصداقيتهم أو ضياعها؛ فإما أن يأخذ السوريون حقوقهم في الحرية والديمقراطية والخلاص من الاستبداد، أو أن يعلنوا بأنهم يريدون تصفية حساباتهم، ويحققون مصالحهم دون اكتراث بالمأساة التي يتحدثون عنها، وبذا يتصرفون كعصابات لا كقادة للعالم. وعندها عليهم تحمل تبعات عالم مليء بالفوضى، يحكمه قانون القوة لا قوة القانون تاركين للعصابات الحاكمة المارقة أن تفعل بشعوبها ما تشاء.
أخيراً، لا بد من أن نستذكر ونتذكّر السيد “ديمستورا” المبعوث السابق لسوريا، والذي خرج من المهمة ذاتها، وهو يعرف بداخله الفاعل المجرم؛ ولكنه لم يمتلك الجرأة الأخلاقية ليبوح بذلك، حاملاً بعنقه جزءاً من المأساة السورية. ببساطة، لا نريد لذلك أن يتكرر؛ لقد هرمنا وتعبنا جداً.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى