إسكان العشائر الكُردية والعربية في الجزيرة السورية من العهد العثماني إلى نهاية القرن العشرين
علي شيخو برازي
اعتمدت الدولة العثمانية بشكلٍ كبير على العشائر, في الكثير من أمورها, كحماية حدودها وحماية طرق التجارة واستقرار العشائر, واستصلاح الأراضي في البوادي, والتخفيف من سلطة هذه القبائل في موطنها الأساسي, وخاصةً العشائر الكُردية, التي كانت تشكّل جزءاً كبيراً من خارطة الدولة العثمانية, ولهذا أوجدت نظام إسكان العشائر, وفي أثناء الحكم العربي في سوريا صدرت تشريعات تخصّ إسكان العشائر العربية البدوية والنصف مستقرة, في عدة محافظات وخاصةً محافظة الجزيرة وبهدفٍ قومي .
عهد الدولة العثمانية : عملت الدولة العثمانية على تشتيت القبائل الكُردية المتمرّدة, إلى ديارٍ بعيدة عن مسكنها الأساسي فترةً من الزمن , وخاصةً القبائل الكُردية الكبيرة مثل: ملّلان – بلباس – ده زيي – زيباري – بابان – جانپولاد (1) وغيرها من القبائل الكُردية ذات القوة والنفوذ, حيث كانت الدولة العثمانية تهدف من وراء هذا النظام, إلى السيطرة على القبائل التي تثير لها القلاقل في مناطق سكنها التاريخي, وترفض الانقياد إلى أوامر الدولة, وخاصةً في مجال التجنيد ودفع الضرائب, وكانت قبيلة الملّلان أكثر تنظيماً وأشد بأساً, بين تلك القبائل التي قامت الدولة العثمانية بترحيل قسمٍ منها إلى الرقة .
وكانت هناك أمور إيجابية في نظام إسكان العشائر, والتي ساعدت على استقرار بعض العشائر وتحضرها وهي : توزيع الأراضي على العشائر وحثّهم على زراعتها, وقد قامت لهذا الغرض على بناء القلاع العسكرية والمخافر, في المناطق الصحراوية من الجزيرة الفراتية وغيرها, وكان هذا النموذج موجوداً في الرقة منذ القرن السادس عشر, يقول الطبيب الهولندي ليونهارت راوولف : ( في مدينة الرقة قلعة يقيم فيها آمر لواء تابع للسلطان التركي وتحت إمرته 1200من الجنود للمحافظة عليها.) (2) وهذا ما دفع قسم من هذه القبائل على الاستقرار وبناء القرى حول تلك القلاع والمخافر, وإحياء المدن القديمة, وقد تأسّست على هذا الأساس مجمعات بشرية ومئات من القرى, ومنها إحياء مدينة الرقة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر .
وقد سنّت الدولة العثمانية قوانين جديدة لهذا الغرض, وأوجدت وظائف جديدة كوظيفة رئيس الإسكان ( إسكان باشي ) وأوكلت هذه الوظيفة لزعماء القبائل الذين لهم خبرة في شؤون العشائر وأصولها وفرقها, ويقوم الإسكان باشي على ضبط هذه العشائر وعدم إثارتها القلاقل ضد الدولة, وتكون حلقة وصل بينها وبين الدولة, بالإضافة إلى جمع الضرائب وإرسالها إلى الحكومة, ومناصب أخرى لهذا الشأن : ( كمنصب كاتب الإسكان, وأمراء الإسكان, وأمراء الصحراء, وكلها مجتمعة تنظم عملية إدارة الإسكان .) (3)
موضوع إسكان العشائر الكُردية في نواحي الرقة, وخاصةً قبيلة المللية التي تمرّدت على الدولة العثمانية في ولاية ديار بكر, وبدأت سياسة الإسكان هذه بشكلٍ فعلي بدءاً من إصدار الدولة العثمانية أمراً سلطانياً عام 1711 م , بحق قبيلة الملّان الكوردية الأمر الذي : ( يقضي بنقلها من ديار بكر وإسكانها في ولاية الرقة, عقاباً لها على تصرفاتها وسلوكها السيىء.) (4) لكن الملليين لم يمكثوا في الرقة طويلاً, ورجعوا إلى ديارهم رغم عدة محاولات من الحكومة العثمانية, حتى تغيّرت الأوضاع بعد عدة حملات على الملليين, وأولها حملة عام 1775م, بسبب اعتداءات القبائل المللية على القرى والأرياف في الرقة ( حيث كلّف والي الرقة محمد باشا , وبكوات ألوية الألاي بحملات عسكرية تأديبية كبيرة, للحدّ من فساد وتجاوزات هذه العشيرة على المناطق الآمنة, وإدخالها في طاعة السلطات الحكومية, إلا أنّ العشيرة لما علمت بشأن الحملة العسكرية , توارت من أمامها نحو الجبال.) (5)
وقد بقيت فرقة وحيدة من قبيلة ملّلان الكُردية في الرقة, واستقرّت بعد أن أصبح تمر باشا والياً على الرقة عام 1803 م . وهم معروفون حالياً في مدينة الرقة, وأهم عائلاتها : الجرف الطه, الجدوع, والحني .
بعد هذه المرحلة وفي النصف الثاني من القرن التاسع عشر, حاولت الدولة العثمانية تطبيق نظام الإسكان على القبائل البدوية العربية أيضاً, والعنزة والشمر بشكلٍ خاص, التي كانت تثير المشاكل للدولة العثمانية في بوادي العراق وبوادي سوريا, في نواحي حلب وحماه, وتغير على المدن أيضاً, مما دفع الحكومة بعد أن أصبحت الدير( ديرالزور) باشاوية تابعة لولاية حلب, في النصف الثاني من القرن التاسع عشر, حيث : (سار أرسلان باشا خلال فترة حكمه في دير الزور بفرق كبيرة من المشاة, ضد قسم من السبعة الذين وجدهم يخيّمون قرب الفرات, فطوّقهم وأمرهم بأوامر السلطان أن يتخلّوا عن حياة البداوة, ويصبحوا مثالاً مخلصاً للوجود والاستقرار في الأرض من أجل الزراعة. إلا أنّ البدو لم يجدوا موقفاً يبعث على القرف , ويعتبر بمثابة إهانة لهم مثلما وجدوه في هذا الاقتراح, فاحتجّوا في البداية إلا أنهم وجدوا جمالهم يهدّدها الفناء. وباعتبار أنه لا خيار لهم وافقوا تحت حراب الجنود. فعمّروا سلسلة من البيوت الطينية في مناطق مختلفة من الوادي . وفي هذه البيوت كانوا في حالة تذمر لا توصف, لكنهم تظاهروا بالعيش فيها طالما وجدوا الجنود بينهم للحراسة . وما أن مضتّ على هذا الوضع ثلاثة أشهر حتى وجد الباشا أنه يحتاج لرجاله في مكانٍ آخر فسحبهم دون تأخير, عندها عاد البدو إلى البادية, وبقيت القرى الطينية على الوادي بدون سقوف. (6)
في منطقة أخرى من الجزيرة الفراتية, (التقى سايكس مع شيخ خلـف شـيخ قبيلـة الفالحيـن ) هكـذا ورد الاسـم مـن قبـل المؤلـف tribe Fellahin الـذي كان يخضع لسلطة إبراهيم باشا المللي الكُردي. ومن خلال حديث سايكس مع الشيخ خلف يبدو جلياً ما جلبته غزوات القبائل من دمار ومآسي لأبناء الجزيرة، وكنتيجة لتلك الغزوات فإنّ أبناء المنطقة لم يكن بإمكانهم ممارسـة الزراعة والاسـتقرار في القرى، بل أنّ قبيلة الكيكان وكمـا سـنرى أدنـاه قـد اضطـرّت إلـى تـرك قراهـا والتوجـه نحـو الشـمال نتيجـة لغـزوات الشـمر، وكانـت القبائـل الأقـل قـوة وعـدداً مضطـرّة إلـى ممارسـة البـداوة وتقديـم الطاعـة للقبائـل القويـة ، التـي كانـت تفـرض سـطوتها علـى المنطقـة وتغـزو القبائـل الصغيـرة وتنهـب مواشـيها وممتلكاتها، وأورد هنا ما قاله الشيخ خلف لسايكس: على ماذا يتقاتلون؟ على عدة جمال، إنّ ضفـة البليـخ (*) إذا تـمّ زراعتهـا سـتكفي مليـون شـخص ليعيشـوا برفـاه . (7) ورغم فشل هذه التجارب خلال مدة زمنية طويلة, إلا أنها نجحت في النهاية في توطين العديد من القبائل العربية في صحاري الرقة وغيرها من الجزيرة الفراتية , مثل : العنزة في محافظة الرقة, ناحية عين عيسى, والمللان في محافظة الحسكة , منطقة سري كانيي (رأس العين) والشمر في محافظة الحسكة, منطقتي القامشلي وديريك, بالإضافة إلى إسكان القبائل التي كانت تعيش على ضفتي وادي الفرات .
يتبع في العدد القادم…..
المقال منشور في جريدة يكيتي العدد “311”