إمارة داعشية محاصرة في كوردستان سوريا
شاهين أحمد
بداية من الأهمية بمكان الإشارة إلى أن حديثنا في هذه العجالة سيقتصر على ماتبقى من مناطق كوردستان سوريا الواقعة شمال وشمال شرق نهر الفرات .تلك المناطق التي تحولت إلى حقول ألغام نظراً لوجود عشرات المواقع والمراكز التي تُحتجز فيها آلاف العناصر الراديكالية الوافدة من مختلف أصقاع العالم . وسبق أن تطرقنا إلى مخاطر ظاهرة الإسلام السياسي الراديكالي في منطقتنا بشكل عام وفي بلدنا سوريا بصورة خاصة ، وكذلك أسباب هذه الظاهرة وجذورها التاريخية، وخطورتها على مستقبل المنطقة وشعوبها . مناسبة الخوض في هذا الموضوع من جديد هي الأحداث التي بدأت في سجن غويران بمدينة الحسكة بتاريخ 20 كانون الثاني 2022 حين قامت مجموعات من مقاتلي تنظيم داعش الإرهابي بهجوم بواسطة المفخخات على محيط السجن – الذي يضم نحو خمسة آلاف شخص من مقاتلي التنظيم المتطرف – الموجود في حي غويران بمدينة الحسكة، وبالترافق مباشرةً قامت العشرات من الخلايا النائمة والمنتشرة في الأحياء المجاورة للسجن بالهجوم من أكثر من جهة، وبتنسيق كامل مع المتطرفين المحتجزين داخل السجن.
هذه الأحداث أدت إلى هروب المئات من المتطرفين، و راح ضحيتها العشرات من المدنيين والعسكريين وتسببت في نزوح الآلاف من سكان تلك الأحياء في ظل ظروف مناخية قاسية . وجدير ذكره أن هذا الوباء – داعش – لن ينتهي بمجرد هزيمته عسكرياً ، لأن التعامل معه يجب يكون وفق خطة مدروسة وشاملة سياسياً وتعليمياً وعسكرياً وأمنياً ومالياً … إلخ. وبالتالي فإن هذه المجاميع وبالرغم من الهزائم العسكرية المتكررة ، وخسارتها لكامل مساحة خلافتها المزعومة إلا أنها مازالت تمتلك قدرات قتالية كبيرة وكذلك مرونة ملفتة في الاختفاء والتلون والتنقل ، ومن ثم الخروج من مرحلة الثبات واستئناف النشاط حيثما تسمح لها الظروف . وجدير ذكره أيضاً أن داعش عبارة عن نسخة متحورة من تنظيم القاعدة المعروف والمنتشر في مختلف بقاع العالم، وكل الإعلانات والاحتفالات التي نشرت سابقاً بمناسبة النصر والقضاء على هذا التنظيم الراديكالي – الذي أدخل الرعب في قلوب الملايين من خلال هجماته الوحشية والمجازر التي ارتكبها والمشاهد الهوليودية التي اعتمدها في التفنن بطرق القتل والإعدام شنقاً وحرقاً وسلقاً وذبحاً وغرقاً…إلخ – كانت متسرعة وبعيدة عن الواقع، لأن هذه الآفة الخطيرة تمتلك منابع فكرية متجذرة في تربة مجتمعات المنطقة ،إضافة إلى حواضن شعبية كبيرة، وكذلك المناخات الملائمة التي توفرها أنظمة الاستبداد، ومصادر مالية متنوعة ، وكذلك التخاذل واللامبالاة من قبل المجتمع الدولي ، والتردد والتخبط الأمريكي …إلخ . ومحاربة هذا التنظيم المنتشر في مختلف أنحاء العالم وبأشكال متعددة يضعنا أمام لوحة وكأننا نعيش أجواء حرب عالمية ثالثة حقيقية طرفها الأول : دول العالم الديمقراطي ومعهم جميع الأحرار، وطرفها الثاني : الحركات الإسلامية الراديكالية وداعميها من دول وشركات وأشخاص وحواضن شعبية.
وبالتالي تنظيم داعش ماهو إلا أحد نسخ وأجيال هذه الظاهرة الخبيثة،حيث تذكرنا أحداث سجن غويران بأجواء ومناخات نشأة هذا التنظيم في العراق تحت شعار محاربة أمريكا وحلفاءها من القوى السياسية العراقية عقب عملية تحرير العراق من نظام الدكتاتور صدام حسين .
وبعد انطلاقة الثورة السورية في منتصف آذار 2011 ونجاح النظام في استدراج الحراك الجماهيري السلمي إلى مستنقع العسكرة وإطلاقه مئات المتطرفين من سجن ” صيدنايا ” بالتزامن مع إطلاق نوري المالكي لأكثرمن ألف متطرف آخر من سجني ” التاجي وأبو غريب ” في العراق وتقديم كل مايلزم وتوفير الحاضنة الدافئة والتسهيلات اللازمة لقدوم المتطرفين من مختلف البلدان.
ولاحقاً تحول التنظيم إلى مايشبه ” شركة مساهمة متعددة الجنسيات ” الكل يستثمر فيها بالشكل الذي يخدم مصالحه . وماجرى مؤخراً في سجن غويران دليل قاطع بأن ماحصل سابقاً من احتفالات النصر يبقى محصوراً في الحقل الجغرافي فقط ، لأن هجمات داعش لم تتوقف بعد تلك الإعلانات وخلالها وبقيت مستمرة ،وخطر التنظيم بقي قائماً ودائماً. وبالرغم من خسارة التنظيم للجغرافيا إلا أنه بقي نشطاً ويمتلك الكثير من أوراق القوة ومصدر تهديد دائم وذلك نظراً لإمتلاكه ملايين الدولارات وآلاف المقاتلين الانتحاريين الذين ينشطون في العديد من المدن وينتشرون في المناطق النائية في الصحراء السورية – العراقية ويمتلك حاضنة شعبية قوية في تلك المنطقة .
من يتحمل مسؤولية ترك ثغرات أمنية وتأجيل القضاء على تنظيم داعش، ولماذا ؟.
سبق أن ذكرنا بأن أنظمة الاستبداد ليست لها مصلحة في القضاء على هكذا أوبئة للإبقاء على دوام استمراريتها ، ومبررات دوام قبضتها الأمنية، وعدم فسح المجال أمام الحياة السياسية الديمقراطية . وكذلك في المساحة التي ذكرناها ( مناطق شمال وشمال شرق نهر الفرات ) والتي يتحكم فيها Pkk من خلال قوات سوريا الديمقراطية أيضاً ليس للعمال الكوردستاني أية مصلحة في إنهاء هذه الظاهرة لأنها بمثابة الحجة للبقاء في المنطقة والتزود بالمال والثروة البشرية من جهة ، وتسويق نفسه كمحارب للإرهاب على الأرض نيابة عن التحالف الدولي أملاً في الخروج من القائمة السوداء!. الولايات المتحدة الأمريكية هي الأخرى غير جادة في إيجاد حل واقعي وعملي شامل لهذه الظاهرة نظراً لغموض مشروعها في المنطقة بشكل عام وفي سوريا بصورة خاصة ، وربطت وجودها بمحاربة داعش ، لذلك لن تعمل على إيجاد حل لهذه الظاهرة حتى تحصل على ماتريد في إطار المقايضات والملفات المتشابكة في أوكرانيا وغيرها. المجتمع الدولي هو الآخر لم يتحمل مسؤولياته الأخلاقية ولم يكن جاداً فيما يتعلق بإيجاد حل حقيقي لأوضاع هؤلاء المتطرفين وإعادة رعاياه من المنتسبين لصفوف الجماعات المتطرفة إلى بلدانهم ومحاكمتهم وإعادة تأهليهم . روسيا والنظام وإيران لايرون مانعاً من إزدياد نفوذ داعش للضغط على التحالف الدولي المناهض لداعش وفي مقدمتها أمريكا نظراً لإزدياد مساحة الخلاف بينهم وخاصة روسيا على إثر أزمة أوكرانيا وأحداث كازاخستان . بمعنى أن المناخات أصبحت مثالية لعودة وانتعاش داعش من جديد في حال استمرارية الخلافات بين كبار اللاعبين.
كيف سيكون المشهد إذا تم إطلاق سراح هذه المجاميع المتطرفة من هذه المراكز دفعة واحدة من قبل القائمين عليها ؟ وهل حقاً هناك إمارة داعشية موجودة ولكنها محاصرة أو مقطعة الأوصال في شرقي الفرات ؟.
لاسمح الله ، وبدون أدنى شك إذا ما تم إطلاق سراح هذه المجاميع المتطرفة دفعة واحدة ستغرق كامل المساحات التي تقع تحت سيطرة قسد في بحرٍ من الظلام، وستسيطر تلك المجاميع المتطرفة عليها خلال فترة قصيرة، وستعود المشاهد المرعبة والمجازر بشكل أفظع مماحصلت في أعوام الخلافة المزعومة. وبالتالي فإن إطلاق سراح هؤلاء المتطرفين يعني أننا امام جيش كامل من المتطرفين إضافة لأضعافهم من الخلايا النائمة في الحواضن الشعبية للتنظيم ، وبالتالي تسليم كامل المنطقة لهم . وقسد تتحمل جزء كبير من المسؤولية نظراً لأنها أطلقت سراح الآلاف من هؤلاء الراديكاليين إكراماً لوجاهات عشائرية وبحجة مصالحات محلية . والأخطر من ذلك أن قسد قامت بتجنيد المئات من هؤلاء المتطرفين في صفوف قواتها وفي مختلف المواقع!.
وخاصة أن قسماً لابأس به من هؤلاء المتطرفين هم من أبناء المنطقة ويعرفون تضاريسها بشكل جيد ، ويتم قيادتهم من قبل كوادر من العمال الكوردستاني الذين ينحدرون في غالبيتهم من خارج سوريا، ويجهلون تماماً طبيعة المنطقة وتضاريسها. والمثير للقلق أن شرائح واسعة من المكون العربي السني الكريم ومن خلال كتابات نخبهم ينحازون بكل وضوح إلى داعش ويعتبرونهم مجاهدين وأنهم يسعون لتحرير سجناء هذا المكون!. وخاصة إذا أدركنا أن داعش موجود فعلياً على الأرض وموزع على مراكز وتجمعات منها على سبيل المثال في محافظة الحسكة : سجن غويران يضم نحو خمسة آلاف متطرف ، سجن علايا في مدينة قامشلو يضم أكثر من ألف وخمسمائة، سجن ديريك يحتوي على أكثر من ألفي متطرف ، سجن الشدادي يضم قرابة ألف متطرف. وفي محافظة الرقة توجد أيضاً العديد من السجون منها : سجن عايد في مدينة الطبقة التابعة لمحافظة الرقة ويضم نحو ألف مقاتل من التنظيم الإرهابي ،سجن الأحداث في مدينة الرقة ويضم أكثر ألف وخمسمائة من الراديكاليين بالإضافة إلى العديد من المواقع والسجون السرية التي تضم الآلاف من المتطرفين ، ولاننسى هنا مخيم الهول الذي يشكل عاصمة الخلافة الداعشية المحاصرة ، هذا المخيم الذي تحول إلى مدينة متكاملة ويضم قرابة خمسة وسبعين ألف شخص من عائلات التنظيم جلهم يحملون فكر التنظيم المتطرف . أمام هذه اللوحة السوداء المرعبة ألا يحق لمكونات المنطقة أن تسأل الجهات المسؤولة وأمريكا والمجتمع الدولي عن مستقبلها الكارثي في العيش مع مستوطنات الأفاعي السامة التي تنتشر في كامل المنطقة ؟ .
ختاماً
بدون أدنى شك أن الكورد على طرفي الحدود العراقية – السورية سوف يكون لهم حصة الأسد من عملية التآمر الجديدة التي حصلت في الحسكة مؤخراً من خلال إعادة خلط الأوراق عبر تهريب المئات من أخطر المتطرفين ربما نجد سيناريوهات مشابهة لشنكال أو كوباني. وجدير ذكره أن تجربة الأشقاء في كوردستان الجنوبية ( العراق )هي المستهدفة بالدرجة الأساس ، وخاصةً هناك معلومات تفيد بأن قسماً من قيادات داعش الذين تم تهريبهم من سجن غويران قد وصلوا إلى شنكال !. يعني ان هناك سيناريوهات خطيرة وخطط خبيثة يتم الإعداد لها لتكرار كوارث موصل وكوباني وشنكال، لذلك ترتيب البيت الكوردي، ومن ثم المكوناتي – الوطني هو الضمانة الأساسية للإقلال من الخسائر المحدقة والحتمية القادمة .على التحالف الدولي وخاصة أمريكا تحمل مسؤولياتهم الأخلاقية والعمل على حماية المنطقة وسكانها ودعم استقرارها من خلال العمل على التوصل إلى اتفاق سريع وشامل بين المجلس الوطني الكوردي ENKS وأحزاب الوحدة الوطنية الكوردية PYNK أولاً،ومن ثم اتفاق عادل بين مكونات المنطقة لتشكيل إدارة تشاركية تمثل كافة مكوناتها، وإيجاد حل سريع ونهائي لآلاف الراديكاليين المحتجزين من عناصر داعش وفق آليات مناسبة لترحيلهم إلى بلدانهم وتقديمهم لمحاكمات مهنية وإعادة تأهيل الذين لم تتلطخ أيديهم بدماء المدنيين الأبرياء وضمان عدم عودتهم ، والقضاء على البؤر الإرهابية المنتشرة في المنطقة وتجفيف منابعها ومصادر تمويلها . وإدخال قوات بشمركة روج إلى الوطن ، وإخراج جميع كوادر حزب العمال الكوردستاني المنحدرين من بقية أجزاء كوردستان من سوريا بشكل كامل ونهائي . كما على النخب الوطنية السورية التعاون والتكاتف والعمل من أجل قطع الطريق على المحرضين على الفتنة والكراهية ، والحفاظ على السلم الأهلي . ويبقى السؤال التالي برسم المعنيين ، ومن حق جميع السوريين وخاصة أبناء المنطقة المذكورة معرفة الجواب.
كيف ،ومن أين دخلت كل هذه المجاميع الإرهابية ،وكذلك المفخخات ومختلف صنوف الأسلحة ،ووسائل الاتصال إلى داخل السجن ومحيطه بالرغم من وجود عشرات الحواجز ومنظومات التحكم والمراقبة ؟.