من الصحافة العالمية

“الأنفال”: الجرائم المؤسِّسة وغياب الذاكرة

حسن منيمنة

في خضم المآسي والتي لم تجفّ دماؤها بعد، التي عاشها العراق وتعيشها المنطقة، يكاد أن يكون حدثاً عابراً الكشف عن مقبرة جماعية لضحايا نظام صدام حسين من العراقيين الأكراد بعد أن مضت العقود على قتلهم. ليس الأمر كذلك بالنسبة لكردستان العراق، حيث جروح تلك الحقبة الأليمة لم تندمل، ولا يجب أن يكون كذلك لدى الثقافة العربية، والتي إذ لم تفِ المأساة التي تعرّض لها هؤلاء العراقيون حقّها، ساهمت بتهيئة الأرضية لتوالي المآسي، ماضية وحاضرة ومستقبلية.

عقد الثمانينات من القرن الماضي كان مختبراً لانحدار نظام البعث في العراق من السلطوية إلى الوحشية، ومن القسوة المحسوبة إلى البطش الأعمى، على مرأى من العالم ومسمع منه، مع شحّة في الأصوات المعترضة. ثمة ما يبرر لصدام حسين، والذي فرض نفسه في العلن بعد أن كان صاحب السطوة خلف رئيس الواجهة، خشيته من أن يفلت الأمر من يديه. البعض في حزبه في العراق كان على تواصل مع الحزب التوأم في سوريا، في حبك متواصل للمكائد والمؤامرات. والأخطر، بالنسبة له، كانت الفورة الثورية في إيران، إرهاصاتها وأصداؤها في الأوساط الشيعية في العراق، واهتزاز بنيان النظام لتجاوب البعض في هذه الأوساط، وتعاطف البعض الآخر، مع طروحات تعيد بالعمق النظر بطبيعة الولاءات والقناعات وأشكالها.

كانت هذه ظروف تمكينية وحسب، ذلك أن العقيدة التسطيحية والفوقية لحزب البعث كانت حاضرة للتوّ للانتقال إلى الوحشية. وطروحات الفصل بين العقيدة، بصيغتها المهذّبة المفترضة، وممارسات النظام، على أنها شذوذ عن المضمون السامي للعقيدة، لا تستقيم. فهذه العقيدة هي التي انتخبت أمة دون غيرها وأضفت عليها رسالة أوجبت معها انتفاء الفرد، بخياره وحريته، بل هي التي اختزلت الأمة بالثورة، فالثورة بالحزب، ثم الحزب بالقائد، فأمسى العراق “عراق صدام”، كما سوريا “سوريا الأسد”. لم يكن إجرام صدام حسين بالأمس، وليس إجرام بشار الأسد اليوم، خروجاً عن العقيدة البعثية، بل هذا وذاك تجسيد لجوهر هذه العقيدة ونتيجة تلقائية لمنطق الطاعة والولاء والذي يسمح باجتراح أقوال وأفعال من طينة “الأسد أو ندمّر البلد”.

الحركة الوطنية الكردية، أي تلك التي طالبت بإقامة الوطن الكردي، كما أُقيمت لافتراضات قومية أخرى أوطانها، كانت قد تعرّضت للغبن والإهمال بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى. من البديهي أن تبقى هذه الحركة بالتالي على خلاف مع الدولة العراقية، تلك التي نجحت بالفعل في تحقيق هوية وطنية شملت في استقطابها عراقيين أكراد، بغضّ النظر عن توالي النظم السياسية من الملكية إلى الجمهورية والاستبدادية، وإن بقيت هذه الهوية غير متكافئة وعلى مقادير من الالتباس.

ما لا بد من الإقرار به هنا هو أن الهوية الوطنية العراقية لم ترتقِ إلى حد تشكيل البديل الوافي القادر على تجاوز الجذب القومي الانفصالي الكردي. الأسباب متعددة، كثير منها مرتبط بالنظام الاستبدادي البعثي طبعاً، ولكنها لا تقتصر عليه. بغضّ النظر عن الزعم القومي العربي البعثي المتجاوز للحدود الوطنية، أعاد السعي العراقي إلى تثبيت الهوية الوطنية تصنيف العديد من السمات الثقافية لتصبح “عراقية” بعد أن كانت “عربية”، ولا سيما منها اللغة والتاريخ. في ذلك بعض إمكانية تبديد الجنوح البعثي إلى تغليب العربي غير العراقي على العراقي غير العربي، ولكن فيه كذلك توطيد معيارية عربية وإن غير معلنة للهوية العراقية.

ما لم يحصل في العراق، بحكم القصور والتقصير، هو طرح إشكالية الهوية الوطنية في إطار التعددية الصادقة، فبقيت فرص احتضان الهوية العراقية للعراقيين الأكراد مأزومة.

في المقابل، فإن النظام أقدم على خطوات متتابعة دفعت بالاتجاه المعاكس. فبعد قبول كاذب بالحكم الذاتي في المحافظات الشمالية حيث الغلبة للحضور الكردي، وفي خضم استفحال المواجهة مع النقيض العقائدي في إيران، باشر النظام البعثي بخطوات انحدارية أولها تجريد العراقيين الأكراد الفيليين من جنسيتهم والعمل على ترحيلهم بحجة “التابعية” التاريخية الفارسية. وبالتزامن مع الخطوات التصعيدية التي اتخذها النظام لاجتثاث المعارضة في الأوساط الشيعية، بدءاً بتجريم المنتسبين إلى حزب الدعوة ووصولاً إلى المعاقبة الجماعية لكل من يمتّ إليهم بصلة، فإن مساعيه في كردستان العراق لإسكات المعارضة جنحت باتجاه السعي الحثيث لإيجاد الحل النهائي.

فتحت ستار الخطوات الأمنية وضرورات المرحلة، جرى تدمير آلاف القرى الكردية وترحيل سكانها إلى «المدن العصرية»، إي إلى سجون الاعتقال الجماعي، وجرى تطويق المجتمع الكردي في سعي واضح لتفكيكه وحرمانه من فرص الازدهار. ومن هنا كان التضييق على فرص التعليم والعمل والملكية لمن تظهر كرديته، ومن هنا كانت مكافأة من ينتقل بتصنيفه من الانتماء الكردي إلى الانتماء العربي (دون أن ينجو من الريبة المستمرة)، ومن هنا كانت إقامة الأحزاب الكردية الوهمية الموالية، بل من هنا كان تدريب “الجحافل” و “الفرسان” كأداة ضاربة محلية ضد النزعة الوطنية الكردية والتي لم تنحسر.

المثقف العربي، من المحيط إلى الخليج، والذي هاله الإجرام الصهيوني الذي دمّر مئات القرى الفلسطينية ورحّل أهلها بدا غافلاً عن الجرم البعثي المضاعف بحقّ العراقيين الأكراد. بل في حالات عدة نال صدام حسين الدعم والتأييد، والتبرير لجرائمه أو أقله إظهار عدم تصديق وقوعها أو التخفيف من وقعها، والقبول مع البعث ومع صدام، بأن الدفاع عن “الوطن” يبرّر القسوة في الخطوات.

حتى فظاعة حلبچة، البلدة العراقية الكردية التي فتكت بأهلها غازات النظام السامة، أو “السلاح الخاص” وفق عبارة التعمية، وجدت من يلقي اللوم على إيران لنكبتها، أو من يرى فيها مسرحية مصورة، أو من يعتبر بأن سكانها قد نالوا ما يستحقونه لخيانتهم المفترضة للوطن، أي لصدام. هذا في الشرق، أما في الغرب المتعاقد مع النظام بصفقات شتى، أو الساعي جهاراً إلى تطبيق سياسة “الاحتواء المزدوج” والتي تجعل من حرب الخليج المستعرّة يومها وسيلة لكبح جموح كل من إيران والعراق، فالاعتراض على مأساة حلبچة قلّ أن غادر قطاع حقوق الإنسان، فيما الضرورة السياسية أبقت على العلاقة مع النظام القاتل تحت ستار عدم اتضاح الصورة.

ردود الفعل الملتبسة على جريمة حلبچة شكّلت بمجموعها تطبيعاً للفعل القاتل، فتح المجال على مصراعيه أمام تصعيد جديد من النظام، ولا سيما أن حرب الخليج استقرّت حيث هي على أن تكون مقتلة بمئات الألوف لكل من الجانبين دون تبديل يذكر في السيطرة على الأراضي أو في مواقع القوة.

سواء كانت التسمية مستوحاة من السورة القرآنية، كما هو اليوم التفسير الشائع، أو مستقاة من اسم ابنة الرأس المخطط لهذه العملية، الطفلة أنفال، ما يشي بمدى الشطح بالاعتبار، فإن النظام البعثي المتوحش أقدم على سلسلة من الخطوات، “عمليات الأنفال البطولية” لاقتلاع التحدي الكردي في الولايات الشمالية من جذوره. بعض القرى ضربت بـ “السلاح الخاص”، وبعضها نال أقسى أشكال التنكيل حيث هو، فيما البعض الآخر جرى جمع أهله وشحنهم بالوسائل المتاحة إلى البوادي الجنوبية حيث تم التخلص منهم.

كانت جريمة هادفة دون حياء إلى درء التحدي السياسي ومعاقبة ما سبقه من إزعاج من خلال إبادة مصادره وحواضنه، في غياب تام للاعتبارات الإنسانية، في خضم تطبيع الموت الذي رافق أسلوب خوض النظام لحروبه في الثمانينات.

النظام البعثي في العراق، في عقيدته وسلوكه مدان، الأسرة الدولية في غفلتها وإهمالها وسكوتها مدانة، والثقافة العربية، والتي لا يحق لها أن تدّعي الجهل مدانة.

مآسي العراق لم تبتدئ مع “الأنفال” ولم تتوقف عندها، ولكن لهذه “العمليات البطولية” خصوصية أن القتل فيها لم يكن وسيلة عرضية بل غاية متعمدة.

البحث عن الأصول الفكرية والعملية لظواهر تنظيم القاعدة و “الدولة الإسلامية” لا يمكن أن يتجاهل الموروث النصي الديني طبعاً، ولكن لا بد له أن يبتدئ من هذه المرحلة من تاريخ العراق والمنطقة. فـ “إدارة التوحش” تمتّ بصلة القرابة المباشرة إلى سلوك النظام البعثي، وإن ارتدت العباءة الدينية، ونكبة اليزيديين تكاد أن تكون تكراراً للأنفال بغضّ النظر عن اجتراح الفتاوى المساندة.

كثيراً ما يطرح السؤال في الأوساط الثقافية الغربية حول ما إذا كان إيلاء المأساة الأرمنية، والتي وقعت في سياق الحرب العالمية الأولى، الاهتمام الذي يقتضيه هولها، كان ليردع بعض ما ارتكبه النظام النازي من أهوال مضاعفة. لا بد من طرح السؤال المقابل في سياق هموم الشرق الأوسط اليوم، سواء استرجاعياً حول العلاقة بين جرائم نظام البعث في العراق بالأمس وجرائم الدولة الإسلامية في الأمس القريب، أو إقدامياً حول العلاقة المحتملة بين جرائم نظام البعث في سوريا اليوم وما هي بصدد التأسيس له من جرائم موازية في الغد القريب.

لا بد من التنويه بأن الثقافة الكردية في العراق قد تعاملت بدرجة عالية من المسؤولية والمناقبية مع ذاك الفصل القاتم من تاريخ كردستان والعراق والمحيط العربي، ذلك في حين أن الثقافة العربية خاصة والعالمية عامة لا تزال مقصّرة في معالجة العلاقة الخطيرة بين الجرائم المؤسِّسة والتغييب المتواصل للذاكرة. الماضي لا يبدّد بالنسيان، بل هي أثمان تدفع مع فوائد باهظة في المراحل التالية. من الاختزال طبعاً القول بأن أفغانستان أنتجت اعتداءات الحادي عشر من أيلول، والأنفال أولدت الدولة الإسلامية، ولكن العلاقة السببية قائمة، دون زعم الحصرية.

alhurra

جميع المقالات المنشورة تُعبر عن رأي كتابها ولاتعبر بالضرورة عن رأي Yekiti Media

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى