آراء

الإبادة الناعمة، الوجه الخفي لجينوسايد مستمر في سوريا

ماهر حسن

الجينوسايد الناعم الذي يتعرّض له كُرد سوريا ليس إلا وجهاً آخر من وجوه العداء التاريخي الذي مارسته القوى الإقليمية والمحلية بحق الكُرد، الذي لطالما كان وجوده شوكة في حلق الأنظمة القمعية والمشاريع التوسعية. إنه ليس مجرد صدفة تاريخية أو نتيجة ظرف سياسي عابر، بل هو مخطط متعمد يستهدف اقتلاع الكُرد من جذورهم وتفكيك مجتمعهم وطمس هويتهم القومية والثقافية بوسائل وأساليب خبيثة تفتقر إلى الشجاعة الكافية لاستخدام العنف الصريح. هذه الحرب الخفية، التي تسعى إلى تدمير الكُرد بطرق ناعمة، تقف وراءها أنظمة وأطراف تتشارك في هدف واحد: إنهاء أي أمل للكُرد في الحفاظ على وجودهم كأمة ذات حق في الحياة الحرة والكريمة.

لطالما كان الكُرد في سوريا ضحية سياسات عدوانية ممنهجة تستهدف وجودهم في أرضهم التاريخية، مستفيدين من غياب القانون الدولي وتواطؤ القوى الكبرى التي تغضّ الطرف عن جرائم الإبادة هذه لأسباب ترتبط بمصالحها السياسية والاقتصادية. منذ عقود، كانت الحكومات السورية المتعاقبة تنظر إلى الكُرد باعتبارهم خطراً وجودياً على مشاريعها القومية الضيقة. وبحجة الحفاظ على الأمن القومي، مارست هذه الأنظمة أبشع أنواع القمع والتهميش بحق الكُرد، بدءاً من سياسات الحرمان من الجنسية، مروراً بمشروع الحزام العربي الذي كان يهدف إلى تفريغ المناطق الكُردية من سكانها الأصليين وتوطين عائلات عربية بدلاً منهم، وصولاً إلى حظر اللغة والثقافة الكُردية وقمع كل أشكال التعبير عن الهوية القومية.

هذه السياسات لم تكن مجرد أفعال عشوائية أو ردود أفعال مؤقتة، بل كانت نتيجة عقيدة سياسية واضحة تستهدف القضاء على الكُرد ككيان قومي.

إنّ حرمان مئات الآلاف من الكُرد من الجنسية السورية عام 1962، وتركهم مكتومي القيد دون حقوق مدنية، كان خطوة أولى في خطة أوسع لتجريدهم من هويتهم وحقوقهم. هؤلاء الأشخاص، الذين أصبحوا غرباء في وطنهم، واجهوا لعقود طويلة تمييزاً ممنهجاً حرمهم من التعليم والعمل والتملك وحتى السفر، ما جعل حياتهم اليومية كابوساً مستمراً.

ومع ذلك، لم تتوقف سياسات الإقصاء عند هذا الحد. ففي السبعينيات، جاء مشروع الحزام العربي ليكون أداة للتغيير الديموغرافي القسري في المناطق الكُردية، حيث تمّ تهجير السكان الأصليين من أراضيهم، وتوطين عائلات عربية مكانهم بهدف قطع الروابط الجغرافية والديموغرافية التي تربط بين المناطق الكُردية.

لقد كانت هذه السياسات محاولة لإلغاء وجود الكُرد على الخارطة السورية، وطمس تاريخهم الذي يعود لآلاف السنين في هذه الأرض.

لكن الجينوسايد الناعم لم يقتصر على سياسات النظام السوري وحده. فمع اندلاع الثورة السورية عام 2011، وما تبعها من فوضى وانهيار مؤسسات الدولة المركزية، وجدت أطراف من فصائل عسكرية عنصرية منتحلة اسم الجيش الحر كالعمشات والحمزات وغيرها فرصة سانحة لتوسيع مخططاتها العدوانية ضد الكُرد. بحجة محاربة الإرهاب، وقامت بسلسلة من العمليات العسكرية، وبدعمٍ من تركيا مستهدفة المناطق الكُردية ( عفرين، راس العين، تل ابيض) والتي أطلقت عليها أسماء برّاقة مثل “غصن الزيتون” و”نبع السلام” لم تكن إلا ستاراً يخفي وراءه مشاريع تطهير عرقي ممنهجة، أدّت إلى تهجير مئات الآلاف من الكُرد من مدنهم وقراهم، وتوطين عائلات عربية وتركمانية مكانهم. هذه العمليات لم تستهدف فقط تفكيك البنية السكانية الكُردية، بل سعت أيضاً إلى فرض سياسات التتريك في المناطق الكُردية، من خلال فرض اللغة التركية في المدارس، وتدمير الرموز الثقافية الكُردية.

إنّ هذه السياسات التي تمارسها هذه الفصائل المدعومة من تركيا وأطراف أخرى ليست سوى استمرارية لحربٍ طويلة الأمد تهدف إلى اقتلاع الكُرد من جذورهم. لكن ما يفاقم الوضع هو تواطؤ المجتمع الدولي وصمته المخزي إزاء هذه الجرائم. الدول الكبرى، التي تدّعي دعم حقوق الإنسان والديمقراطية، تتعامل مع القضية الكُردية بازدواجية مقيتة، حيث تلتزم الصمت أو حتى تقدّم الدعم للأطراف التي ترتكب هذه الجرائم، طالما أنّ ذلك يخدم مصالحها الجيو سياسية.

إنّ ما يحدث للكُرد في سوريا اليوم ليس مجرد أحداث عابرة يمكن تجاوزها، بل هو تهديد وجودي لشعب بأكمله. ومع ذلك، فإنّ أولئك الذين يسعون إلى محو الكَرد يرتكبون خطأً تاريخياً فادحاً. الكُرد، بتاريخهم الممتد لآلاف السنين، وبثقافتهم العريقة، وبإرادتهم الصلبة التي لا تعرف الانكسار، لن يختفوا تحت ضغط سياسات الإقصاء والتهميش. هؤلاء الذين يحاولون محاربة الكُرد وإلغاء وجودهم، إنما يثبتون أنهم عاجزون عن مواجهة الحقيقة ،: الكُرد ليسوا مجرد مكون صغير يمكن تجاوزه، بل هم جزء أساسي من تاريخ هذه المنطقة ومستقبلها. مهما حاول الأعداء إخفاء الحقيقة، فإنّ صوت الكُرد سيظلّ حاضراً، وهويتهم ستظل صامدة، رغماً عن كلّ محاولات الإبادة الناعمة التي تُمارس ضدهم.

المقال منشور في جريدة يكيتي العدد “328

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى