آراء

الإعلان الدستوري السوري: وثيقة انتقالية تحمل إشكاليات جوهرية

أكرم شمو

تأتي هذه الدراسة لتقديم تحليل قانوني وسياسي للإعلان الدستوري المؤقت (لجمهورية العربية السورية) الذي يعد وثيقة تنظيمية مرحلية تهدف إلى إنهاء عهد الاستبداد وإرساء أسس دولة قائمة على العدالة وحقوق الإنسان.

تستند الدراسة إلى نصوص الإعلان التي حاولت الجمع بين مبادئ الشفافية وفصل السلطات وبين آليات العدالة الانتقالية في ظل واقع معقد يتسم بتعدد مكونات الشعب السوري من قوميات وأثنيات وطوائف.

كما تهدف الدراسة إلى تسليط الضوء على النقاط التي تحتاج إلى تعديل وتطوير عند صياغة الدستور الدائم مع الأخذ في الاعتبار التحفظات والنظرات الاعتراضية التي قد تثار حول بعض نصوص الإعلان.

أ- العيوب والمآخذ

١- اسم الدولة وحصر الهوية (المادة 1): تنص المادة 1 على أن اسم الدولة “الجمهورية العربية السورية”، مما يقيد الهوية الوطنية إلى البعد العربي فقط ويستبعد بذلك الاعتراف بالتنوع القومي والعرقي والطائفي في المجتمع السوري. هذا التحديد يعتبر إقصاءً لبعض مكونات الشعب ويثير تساؤلات حول مدى شمولية الهوية الوطنية، والصحيح أن يكون اسم الدولة “الجمهورية السورية”.

٢- آلية التعيين في مجلس الشعب (المادة 24): تعتمد المادة 24 على قيام رئيس الجمهورية بتشكيل لجنة عليا لاختيار أعضاء مجلس الشعب، وهو ما قد يؤثر سلبًا على استقلالية الهيئة التشريعية ويخلق مجالًا للتأثير السياسي في عملية التمثيل، خاصة إذا لم ترافق هذه الآلية بنظام رقابي شفاف يضمن تمثيل كافة المكونات. بالإضافة إلى تعيين ثلث الأعضاء من قبل رئيس الجمهورية، هذا ما سيؤدي إلى تأثير على أداء مجلس الشعب.

كما يشار إلى أن هذه الآلية تعرف بـ “الثلث المعطل”، حيث يؤدي تعيين هذا الثلث من قِبل الرئيس إلى تمكينهم من كسب صوت إضافي يُشكل عقبة أمام تمرير القرارات الهامة وتصديقها مما يؤثر سلبًا على كفاءة الهيئة التشريعية واستقلاليتها.

٣- النصوص العامة وغير المحددة (عدة مواد): يتضمن الإعلان عدة نصوص عامة وغير محددة مثل بعض ما ورد في المواد 8 و23، مما يتيح مجالا واسعا لتأويلها وتنفيذها بطرق قد تتعارض مع مبادئ حقوق الإنسان والحكم الرشيد، ويمكن استغلالها لتبرير إجراءات غير شفافة.

٤- مدة الفترة الانتقالية (المادة 52): تحدد المادة 52 مدة المرحلة الانتقالية بخمس سنوات وهو ما يعتبر طويلاً نسبياً بعد فترة طويلة من النظام الاستبدادي. كان من الأنسب تحديدها بسنتين أو ثلاث سنوات، وهي مدة قد تكون كافية لإعادة بناء المؤسسات وإجراء الانتخابات دون تأخير في إرساء المؤسسات الديمقراطية اللازمة.

٥ – الاعتماد على المرجعية الدينية في التشريع (المادة 3): تنص المادة 3 على أن دين رئيس الجمهورية هو الإسلام والفقه الإسلامي هو المصدر الرئيسي للتشريع.
بالرغم من ارتباط هذا البند بالتراث والثقافة المحلية إلا أنه يطرح تساؤلات حول حيادية التشريع وإمكانية تمثيل كافة مكونات المجتمع خاصة في دولة متعددة المكونات.
وكان الأفضل لو اعتُبر الفقه الإسلامي مصدرًا من مصادر التشريع، وذلك مراعاة للواقع السوري بطوائفه المتعددة.

٦- تأكيد مركزية الدولة وعدم تبني اللامركزية: نصّ الإعلان الدستوري في المادة 1 على أن “سوريا دولة مستقلة موحدة ذات سيادة”، دون الإشارة إلى أي شكل من أشكال اللامركزية الإدارية أو السياسية التي تأخذ بعين الاعتبار التنوع القومي والطائفي في البلاد. كما لم يحدد أي إطار قانوني يتيح توزيع الصلاحيات بين الحكومة المركزية والسلطات المحلية، مما يرسخ النموذج المركزي التقليدي للدولة. وهذا يتعارض مع التوجهات الحديثة في الدول التي تتمتع بتعدد قومي وإثني، حيث يتم تبني أشكال من اللامركزية لضمان مشاركة جميع المكونات في إدارة شؤونهم المحلية.

٧- غياب الآلية الديمقراطية في بناء مؤسسات الدولة: لم يتضمن الإعلان الدستوري نصوصًا واضحة حول الآليات الديمقراطية لبناء المؤسسات الدستورية، بل أقرّ في المادة 24 تشكيل مجلس الشعب عن طريق التعيين وليس عبر الانتخابات، مما يحدّ من الإرادة الشعبية في اختيار ممثليهم. هذا الأمر يفتح المجال أمام آليات غير ديمقراطية في تشكيل السلطة التشريعية، وهو ما يتعارض مع المبادئ الأساسية للحكم الرشيد الذي يقوم على تمثيل الشعب من خلال انتخابات حرة ونزيهة.
عدم النص على الانتخابات التشريعية كآلية لتشكيل البرلمان يتعارض مع المعايير الدولية للديمقراطية، ويثير مخاوف من استمرار النهج السلطوي في إدارة الدولة.

ب- الإيجابيات

١- إنهاء عهد الاستبداد وبداية مرحلة جديدة (المقدمة والمادة 1): يمثل الإعلان فصلاً تاريخياً بإنهاء نظام استبدادي دام عقوداً طويلة، مما يفتح آفاقاً لبداية عهد جديد يقوم على مبادئ الحرية والعدالة واستعادة سيادة الشعب. يعد هذا التحول خطوة إيجابية نحو بناء نظام سياسي يعكس تطلعات الشعب السوري.

٢- حماية حقوق الإنسان والحريات الأساسية (المواد 12-23): يولي الإعلان اهتماماً كبيراً بحفظ حقوق الإنسان حيث تؤكد المواد 12 و13 و14 على حرية التعبير والمشاركة السياسية والاجتماعية، إضافة إلى حماية الحقوق المدنية والاقتصادية والاجتماعية بما يتوافق مع المعاهدات والمواثيق الدولية.

٣- آليات العدالة الانتقالية (المواد 48 و49): يوفر الإعلان إطاراً لمحاسبة الجرائم الماضية وإنصاف الضحايا عبر آليات العدالة الانتقالية مثل إلغاء القوانين الاستثنائية التي ألحقت ضرراً بالشعب وإنشاء هيئة تحقيق شاملة. يعد ذلك خطوة مهمة نحو تحقيق مصالحة وطنية وبناء ثقة بين الدولة والمجتمع.

٤- فصل السلطات وتوزيعها (المواد 24-47): يشدد الإعلان على مبدأ فصل السلطات بين السلطة التشريعية والتنفيذية والقضائية، ما يساعد على منع تركز السلطة ويعزز آليات الرقابة والمساءلة حيث توضح المواد 24-30 آليات عمل مجلس الشعب، بينما تحدد المواد 31-41 صلاحيات رئيس الجمهورية والوزراء، وتكمل المواد 43-47 تنظيم السلطة القضائية.

٥- الحفاظ على وحدة الدولة وسلامة الأراضي (المادة 1): على الرغم من الجدل حول اسم الدولة إلا أن المادة 1 تؤكد على وحدة وسلامة الأراضي السورية، وهو أمر أساسي لاستقرار الدولة في مواجهة محاولات الانفصال أو التدخل الخارجي مع ضرورة تحقيق توازن يضمن الاعتراف بالتنوع الداخلي.

لكن أي دستور لن ينجح إن ظلت “الوحدة” تُدار كأداة لإنكار التنوع. فالسوريون – عرباً وكرداً وتركمان وسريان وأرمن ودروز وعلويين ومسيحيين وإسماعيليين وايزيدين وغيرهم – بحاجة إلى عقد اجتماعي جديد، لا يكتفي بالحديث عن الوحدة الجغرافية، بل يعترف بالهويات الفرعية، ويوزع السلطة والموارد بعدالة.

هنا قد تكون النماذج اللامركزية (كالفيدرالية، أو الحكم الذاتي ) خيارا عمليا، شرط أن تبنى عبر حوار وطني لا تحتكره النخب، بل تشارك فيه المجتمعات المحلية.

في الختام، يجب التأكيد على أن هذا الإعلان الدستوري هو وثيقة مؤقتة تهدف إلى تنظيم شؤون البلاد خلال المرحلة الانتقالية، وهو قابل للتعديل وفقاً للتحديات التي قد تطرأ.

من الضروري العمل على تلافي الأخطاء والنواقص الواردة في الإعلان عند صياغة الدستور الدائم، ليعكس تطلعات جميع مكونات الشعب السوري دون تمييز. التجارب الدولية تُظهر أن الدساتير المؤقتة الناجحة هي تلك التي تُعدل سريعاً، كما حدث في جنوب أفريقيا، بينما فشلت وثيقة اليمن المؤقتة بسبب التصلب في تعديلها. السوريون اليوم أمام خيار: إما تحويل هذا الإعلان إلى ذريعة لاستمرار الأزمة، أو إلى منصة للحوار الوطني، حيث يبنى دستور يضمن العدالة والمساواة لجميع المكونات السورية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى