الاستبداد و ثقافة التدجين
وليد حاج عبدالقادر / دبي
بدايةً و قبل الخوض في جدلية الاستعداد منذ بداية تحوّله ووصوله لأعلى درجات تجلياته ، وكمتلازمة أساس له والمتجسّدة في نمطية استهدافه بمنهجيةٍ و كمهمة لشريحةٍ ارتأت – ترتأي أن تُصنّف كمتنوّرين والتي قد تضمّ نخباً مهنية محترفة تشكّل طبقة ثقافية وأيضاً مختلفة تتفاوت فيهم درجات الضبط المسلكي والملتزم بميثاق شرف أو قواعد كما أصول واحترام أساسيات الفئة من جهة ، والعزف الدقيق على وتر النزعة السايكولوجية للفرد – المثقف وبشكلٍ خاصٍ نرجسية بعضهم التي عليها تتفرّع مشارب عدة إنْ لتنفيث الرغبات الشخصية حيث تؤدّي الحالة هذه إلى كشف طرق التسلّل ومعها آليات جذب حاملي فايروس التحوّل من منتقدٍ لأسس الاستبداد جذرياً ومن دعائمه مروراً – وقد تكون مقدمة رئيسة لانكشافٍ موائمٍ مع الاستبداد – والتدرّج في الانتقال إلى دورٍ يسلّط فيها الضوء على الأخطاء والنواقص الفاقعة ، ولا يلبث وبقدرة قادرٍ أن يتحوّل إلى أبرز مُدافعي لا بل و كمروجٍ عصبوي للمستبدّ ، حيث لن يكتفي بتبرير كلّ التجاوزات بقدر ما يشرعنها كضروراتٍ حتمية للشرعية الثورية ، وفي حالات مستعصية يستسهلّها باعتبارها كممارساتٍ أو تجاوزاتٍ فردية ، وكلّ هذا الأمر مقابل مكتسبات شخصية ، وعليه فقد بات واضحاً وبحكم التجربة أنه عندما تُنحى أية سلطةّ أوحزبٍ سواءً مباشرةً أو عبر مناصريها ، وكهروبٍ علني من الاستحقاقات فإنّ أبسط استنتاجٍ سيعني حينها وبوضوحٍ بأنهم يتوّهون الحقيقة والأبشع هنا ، هو ردة الفعل التبريرية لأخطاءٍ جسيمة قد تُرتكب أو ارتُكِبت ، فينحصر العمل على إيجاد آلية لسيناريو يوفّر أرضية لمصداقية ذلك المبرّر ، ولكن ؟ لنتصوّر ردة فعله فيما لو أنّ حزبه / سلطته أقرّوا بالخطأ ، وحينها ألا يحقُّ لنا في اعتبار مَنْ برّر الخطأ على أنه كمٌنْ صنعه ؟
كلّ هذه الحالات وثّقتها تجارب عملية عديدة وأثبتت أنّ ما قاله الكواكبي في توصيفٍ لهكذا بيئات وبفئاتها المتحكّمة وطوابير انتهازييها أصبحت الركيزة التي استند عليها في توصيفه لجدلية العلاقة بين الاستبداد ومظلوميته منذ أكثر من قرنٍ في كتابه طبائع الاستبداد حيث ذكر :
( أنّ فناء دولة الاستبداد لا يصيب المستبدّين وحدهم بل يشمل الدمار الأرض والناس والديار ، لأنّ دولة الاستبداد في مراحلها الأخيرة تضرب ضرب عشواء كثورٍ هائج أو مثل فيلٍ ثائر في مصنع فخار ، وتحطّم نفسها وأهلها وبلدها قبل أن تستسلم للزوال ، وكأنما يستحقّ على الناس أن يدفعوا في النهاية ثمن سكوتهم الطويل على الظلم وقبولهم القهر والذل والاستعباد . ) . هذا الاستخلاص الذي اختزل فيه الكواكبي وكرؤيةٍ استباقية التوصيف الدقيق إلى التثبيت المعرفي لجدلية المستبَد والمستبِد / بفتح الباء في الأولى وكسره في الثانية / والتي تمهّد عادةً في هكذا أنماطٍ لتفاعلات يُفترض بها أن تُنمّي آليات استمرار النضال وصولاً إلى إنجاز محطاتها المرحلية و التي – غالبيتها – وبحكم الضرورة ، ستؤدّي إلى تفرّعات تتواتر من جديد مرحلياً وكمحطات عدة تتفرّع منها دروب ومسالك تساهم بدورها في تبلور وظهور متغيّراتٍ حقيقية ، وذلك في قضايا رئيسية كإلغاء أو وتحت بند الترحيل – التأجيل إلى مراحل قادمة لكنها في الواقع تُعتبر عملية إقصاء صريحة وممنهجة تستهدف كيانات / مجموعات وقد تكون معها أسماء لشخوص وتيارات أيضاً ، والتي قد تدفعهم الحالة هذه لبناء تشكيلات جديدة قد تحمل معها بعضاً من إرثها لتنمّي فيها كتجميلٍ دعائي من جهة ، أو كحامل رئيسي لتقيات محدثة ومزخرفة بشعاراتٍ فضفاضة مضافة ، والتي هم أول مَنْ يعلمون بأنها مجرّد بروباغندا تهدف للتغطية على رغائبهم الشخصية من جهة و مصالحهم الفئوية كإنتيليجينسا مطوقة وبعصبوية تغذّيها تلك المصالح الفردية ، والتي قد تتمظهر بمساحةٍ سياسية مختلفة قليلاً عن السابق وقد تعترضها عراقيل مرحلية وصعوبات أيضاً في إخفاء نزعاتها الفردية ، وعليه فمن الطبيعي هنا ، أن تتسارع للموائمة بطرقٍ متعدّدة سواءً للاندماج في البناء – النظام المتشكّل ، أو الوقوف ضدّه ، هذا الوضع الذي سيوفّر للانتهازي فرصة وبيئة مميّزة وبصفة شمولية للتراجع عن كثيرٍ من القناعات التي أصبحت الآن مجرّد رومانسيات فكرية و شعارات سياسية برّاقة ، وطبيعي أن نلاحظ فئات أخرى تترنّح بخطاها وهي تنتظر فرصة تراها أفضل ، وستصرّ هذه الفئة على إبقاء علاقتها مع السائد وإنْ تظاهرت بالخلاف معه ، وسيتدرّج القناع بالانزياح عن الفئة الأولى لتكشف عن الآلية التي أوجدت / تشكّلت عليها المصالح برغائبها ، مع اليقين بأنّ هذه القناعات هي التي تأسّست عليها محطات – أهداف رئيسية بقيت عند بعضهم ، وتجاوزها آخرون ارتقاءاً لأهداف أخرى وإنْ كانت عبر ذات الهدف الذي سينظر إليها كمحطة مرحلية تمّ تجاوزها ، وفي الواقع وحين الوقوف عند هذه الإشكاليات سنلاحظ بأنها هي التي أسّست سلسلة من خلافات حادة أدّت إلى انشقاقات ومصادمات دموية ، ومهّدت لظهور بنىً لقوى تنظيمية ومذاهب فكرية / سياسية عديدة وبمشارب مختلفة ، والتي بدورها أسّست أرضية لانقسامات حملت تشظياً لأنماط ثقافية ، كلّ واحدة منها اصطفّت – ارتبطت وكتابع لفئة ، كلّ ذلك في وقت كان يفترض بها أن تكون حاضنة استيعاب جمعية ، إلا أن التجارب العديدة أكّدت وكما نلاحظها في أيامنا هذه ، كيف أنّ فئات منها انخرطت في بنية النظم وأصبحت أشبه ما تكون كعازف في جوقة موسيقية انحصر هدفها في دبّ الحماس لا أكثر ، هذه الفئات – المتنوّرة – والمصنّفة بمسمّى ثقافة الموائمة و التبرير ، وهي تُعدّ من أخطر الفئات التي اجتهدت في السعي وبكلّ السبل على تبرير ممارسات الأنظمة ، وعكست الهزائم والانكسارات إلى انتصارات فلكية ، وباختصار : إنّ ما تقوم به هكذا شرائح عملياً تتجاوز في تأثيرها كداعم في ممارساته لبنية النظم من تدميرٍ لآفاق الوعي المجتمعي ، ناهيك عن الدور الكومبارسي المتقن وبمهنية في تقزيم المختلف وابتداع و إلصاق أبشع الصفات و الإتهامات بهم . هذه الأمور الممنهحة والتي تكون عادةً مبنية على قاعدة كيدية مكشوفة في أهدافها ، حيث تشي وببساطةٍ شديدة عن مهام هكذا نسق من الموائمين في إيجاد حالة من التخبّط والاستهتار بمفهومي الانتصارات والهزائم كقيم معيارية متداخلة فيتوه المتلقّي – الشعب بين الحالتين ، وعليه أيّهما نصر حقيقي وماهو الزائف ؟ هذا التداخل المتقصّد وبالتوافق مع تلك الثنائية ( الهزيمة والنصر ) ، وبالتالي شطب الهزيمة أدلجة والتقهقر ممارسة ، والتي هي في الحالة هذه تُعدّ من أهم عوامل إيجاد ونمو المطبّات المستولدة التي كانت في الأصل منهجاً ومن خلالها مرّرت أبشع المخططات وأقذرها ، ومن جديد لتدور فينا القضية إلى – زعيق شعراء البلاط – وكلٌّ يستشعر في ليلاه . وهذا الكلام هو الذي سيقودنا إلى موضوعة الفوضى السياسية الخلاقة التي لم تكن هي الهدف أساساً في سبعينيات القرن الماضي بقدر ما كان التدمير البنيوي هي الاستراتيجية الأساسية والتي خطّطت لها بإتقانٍ غريب وطبّقت ببرنامج أشدّ دقةً تمأسست عليها يد الأنظمة العميقة بنيوياً ، والتي اندفعت بتأنٍّ وهي تؤسّس وتحت بند ثقافة الترسيخ وأودت إلى هذه التغريبة المركّبة والتي على أسسها لايزال شعار الهدم المركّب هو في الواقع ليس الهدف الحقيقي الأخير لها .
إنّ من أهم عوامل انحطاط القيم والمعيارية في خطابات كثيرين ممن لربما لو عُيّنوا في أوج سطوة نظم الاستبداد كرؤساء فروعٍ لأجهزة القمع أو حتى رؤساء أقسام التعذيب بشقيه الجسدي والمعنوي !! هو في الأساس صدى لطفح بنيوي ناتج عن صراع داخلي شخصي في أغلبه ، ونتيجة لفقدان القدرة على التصالح الذاتي والرضوخ إلى صوت الضمير الداخلي ، وكتعويض نفسي لتلك المعاناة الداخلية يلتجئ وبوحشية وذلك كبديل لجلد الذات شخصياً فيمارسها بحقّ المختلف معه ، وهنا علينا ألا ننسى أمراً مهمّاً ! فنتساءل ؟ هل راجعت اية فئةٍ منهم عما كتبته في حقّ مختلفها بدقة وأمانة ؟ وبالتالي أوليست الندية في التعامل هي الخطوة المبدئية الأساس التي تفترض بالشرائح عامةً ومهما اختلفت ان تلتفّ حولها ؟ . وعليه ! فلو احترمت الفئات وعلى أرضية خلافاتها العديدة وحدة المصير المجتمعي ذاتياً ومن خلالها مستقبل الحياة البشرية في حالة الخطر لمواجهة أيّ ظرفٍ وبائي كارثي كما وباء كورونا المعاصر ، والتي أجبرت العالم كلها للخضوع إلى الظروف التي نعيشها الآن بسببها ، ولكن ؟ وللأسف ! لازال بعضنا يعزف على ذات الوتر الخاصوي ويتساءل بسخريةٍ :
متى كان المكان والثوابت مثلها جامدة ومهمة يا رفاق ؟ المكان هو مجرد ملعب ؟ ونحن اينما ذهبنا وحللنا لنا ملاعبنا أيها الرفاق ! وما يهمّنا وسيبقى هو ولاؤكم وجموعكم الهاتفة أيها الرفاق ؟ .
إنّ حالة التصدّع البنيوي والذي سيؤدّي بالضرورة إلى صراع ضمني ، والتي ستنتج بالضرورة أيضاً حالة عنف مركب بيني ، وكمأزومين سيمارسونها سراً وعلانيةً وستزداد معها حالات الرهاب اللفظي النابي بالترافق مع ضرب مبرح وقد تتراكم الحدية العنفية فتتصاعد في المحصلة لتصل إلى مرحلة القتل والتي عليها سنلاحظ أنّ بعضاً من أشباه المثقفين والذين يتحمّلون عملياً وزر غالبية الأخطاء القاتلة بين الفئويات المتشظية ذاتها ، هذه الحالة التي تذكّرني. – دائماً – بالرائع البياتي والذي كان له موقف قاس من سارقي الثورات ، ومثله الشاعر المبدع يوسف أبو لوز الذي قال أيضاً في هذه الحالة ما معناه : أن سارقي الثورات لا يهمّهم مناضليها حتى لو احترقوا بالنار