أخبار - دولية

الانتخابات الأوروبية تعيد “المالتوسية” إلى واجهة الأحداث

" إبراهيم العريس" زعيمها يرى فيه المتنورون مفكراً لا يتذكره الناس إلا بوصفه واحداً من "كارهي البشر"

Yekiti Media

لا شك في أن ملايين المواطنين في شتى أنحاء العالم تابعوا على شاشاتهم قبل أيام مجريات الانتخابات التشريعية الأوروبية، ولا شك في أن كثراً من هؤلاء شعروا بتلك الصدمة الوجودية التي بدا لهم أن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون شعر بها عند نهاية أيام الانتخابات الطويلة لهول النتائج التي أسفرت عن انتصار أقصى اليمين، حتى وإن كان من الصعب القول إنه انتصار ستكون له تبعات سياسية فورية. كان أهم ما في ذلك الانتصار هو أنه يدق جرس الإنذار، وينبه ليس فقط شعوب أوروبا بل نخبها وشعوبها، بالتالي إلى أن عالم القيم الذي وصل إلى ذروته في القرن الـ20 بات يتهاوى أمام أنظاره، ليبرز بين ركامه اسم كان أصحاب القيم يفضلون نسيانه، اسم العالم الاقتصادي سيئ الذكر “مالتوس”.

من المسؤول عن ذلك الفشل؟

فهل يتذكر أحد من قرائنا هنا اسم توماس روبرت مالتوس؟ لسنا ندري تماماً، ولكن من المرجح أنه اسم يذكرهم به تعبير “مالتوسية” الذي يعود لسطح الأحداث في هذا الزمن بقوة، وتحديداً الآن على ضوء حدث عالمي يرتبط بردود الفعل الأوروبية وغير الأوروبية على مسائل اقتصادية واجتماعية تتعلق بهجرة مئات الألوف من أبناء البلدان الآسيوية والأفريقية من الذين تدفعهم مستجدات السياسة والأوضاع في بلدانهم، ولا سيما منها فشل “الاستقلالات” التي منحت أواسط القرن الـ20 لتلك البلدان، فأخفق أبناؤها وطبقاتها الحاكمة خصوصاً في التقاط طرف الخيط للارتباط بالعالم المتقدم، وربما تحديداً عبر الاستفادة من تلك الفرص الذهبية التي أتيحت لهم ولا سيما في فترات الاستعمار والانتدابات وغير ذلك، كما لم تمكنهم ثروات جوف أرضهم وإمكاناتها وما يمكن أن تسهم به القوى البشرية الشابة، من الانضمام إلى مسيرة العالم.

والحقيقة أن ذلك الفشل المعمم هو ما يدفع إلى استذكار ذلك “المفكر الاقتصادي” الإنجليزي الذي عاش بين عامي 1766 و1834، وحتى لو أن بعضهم يعتبره فيلسوفاً، فإن مكانته في التاريخ إنما تقوم على كونه عالماً اقتصادياً ومكانته ملعونة بشكل عام. وذلك لأنه أفتى منذ تلك الأزمنة المبكرة لسلوكها دروب العولمة بأن الفشل سيكون من نصيب كل محاولة لتقويم الأحوال الاقتصادية في أي مكان في العالم، بالنسبة إليه ليس السبب سوى التكاثر السكاني الذي ولدت من أجل فضحه تلك “المالتوسية” الكأداء المسؤولة في رأيه عن كل الشرور التي تصيب النوع الإنساني. والمالتوسية مسماة طبعاً على اسم ذلك الاقتصادي الذي صار اسمه مع مرور الزمن واللعنة التي اقترنت بنظريته، كاره البشر. ومن هنا لا يمكن العثور على أي تعريف به، أو تحليل جدي لنظريته في أية موسوعة جادة.

زلزال سياسي أم جرس منبه؟

ومع ذلك لا شك أن مالتوس وجد بالفعل في تاريخ الفكر، بل إن ثمة أعداداً كبيرة من مفكرين، يزدادون عدداً مع تفاقم الأزمات الكونية واستشراء اللعنات التي تصب على العولمة، يسيرون على هدي أفكاره حتى ولو أنكروا ذلك، وصولاً طبعاً إلى الحديث عن أحد الأسباب التي تشكل اليوم بالذات، أي غداة الانتخابات التشريعية التي نظر إلى نتائجها بوصفها زلزالاً سياسياً، إذ حملت إلى البرلمان الأوروبي نواباً لأكثر من 20 بلداً صوتوا لصالح أفكار تنتمي مباشرة إلى أفكار مالتوس سواء كانوا يعرفون ذلك أم لا يعرفونه. بمعنى أنهم نصروا مالتوس ونظرياته على كل الفكر التقدمي والتنويري الذي سير الإنسانية خلال القرنين الأخيرين، وهي كما يمكننا أن ندرك أفكار كان لها دور في ولادة النازية وتوسع الشرخ القائم بين أغنياء العالم وفقرائه، كما في ولادة تلك التوجهات التي تحاول الآن أن تعطي فرصاً جدية لليمين العالمي والأوروبي المتطرف، مستفيدة من تلك الظروف التي تتراكم لصناعة عالم شيطاني جديد، كان بوسعنا مساء أحد الانتخابات الأوروبية قبل يومين أن نتلمس انعكاساته على ملامح وجه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، وهو يعلن ما يوازي هزيمة قيم التقدم والتنوير أمام “مالتوسية” قطاع عريض من الناخبين الأوروبيين.

المالتوسية وانتصاراتها المدوية

طبعاً في هذه المناسبة الآنية لم يذكر أحد اسم توماس روبرت مالتوس، لكن المالتوسية كانت هناك تعلن انتصاراتها المدوية، أما الإنسانية فبدت في مقابلها وكأنها تحتضر. وبالتالي كان لا بد من أن نضيء هنا على مالتوس نفسه. وتحديداً على كتابين أساسيين له يشرح فيهما “علمياً” على أية حال، تلك النظرية التي كثيراً ما لعنت من أصحاب القيم التنويرية كما انطلقت في القرنين الماضيين على الضد من كراهية البشر المالتوسية تلك. والكتابان اللذان نشير إليهما هنا هما بالطبع “دراسة حول مبدأ السكان” (1798) وبالتالي “مبادئ الاقتصاد السياسي منظوراً إليها عبر تطبيقاتها السياسية” (1820) علماً بأن الكتابين لا يختلفان واحدهما عن الآخر. كل ما في الأمر أن ثانيهما إنما جاء ليؤكد فيه مؤلفه استنتاج الكتاب الأول مستخدماً أرقاماً ومعطيات تجمعت لديه خلال العقدين الفاصلين بين ظهور الكتابين، من دون أن يحاول حتى أن يجيب عن تلك الأسئلة التي كانت تراكمت متحدية إياه ومناوئة أفكاره. علماً بأن أفكاره تلك كان من السهل دائماً اختصارها بفكرة واحدة: إذا كانت البشرية تعاني الآن معضلات اقتصادية تتسبب في انهيارات اجتماعية كما في الحروب وانتشار الجوع والفقر والمرض، فما هذا إلا لأن السلطات الحاكمة تبدو دائماً عاجزة عن سد تلك الهوة الناتجة من واقع حسابي بسيط، في نظره. واقع فحواه أن الإنتاج وقوامه الأول إنتاج تلك المواد الكافية لتغذية البشر بشكل لائق ومحترم ويكفيهم، غير قادر الآن، ولن يكون قادراً بالتأكيد في أية مرحلة زمنية مقبلة، على سد جوع تلك الجموع من المواليد الذين ينجبهم بائسو الأرض من دون أن يفكروا بكيف وبماذا سيمكنونهم من العيش. بالنسبة إلى مالتوس يجب أن تكون هناك سلطات لديها من الدراية والجرأة مما يمكنها ليس من إيجاد شغل للملايين الزاحفة على مرافق الحياة، بل لوقف ذلك الزحف بكل اختصار.

إلغاء البشر بدل إيجاد العمل

بالتحديد يرى مالتوس إذاً أن المطلوب ليس السعي السلطوي أو من طريق القطاع الخاص، إلى إنتاج فرص عمل وفرص تنموية تردم الشرخ بين التزايد السكاني وقصور الأرض وغير الأرض عن سد حاجات البشر، بل إلغاء ذلك الوجود وبشتى الطرق. وبالنسبة إليه لئن كان مواطنه تشارلز داروين وفي استعارة منه تحديداً، تحدث في كتابه “أصل الأنواع” عن الانتخاب الطبيعي، بمعنى أن على الطبيعة أن تفعل فعلها تاركة الإنسانية تضبط تلك المعضلة بحيث يكون البقاء دائماً للأفضل كما حدث طوال عصور الإنسانية وما قبل الإنسانية، فإنه هو، أي مالتوس يرى، وطبعاً من دون أن يعبر عن ذلك صراحة، أنه لم يعد من الممكن الآن انتظار الطبيعة كي تقوم بهذا الدور، بل ينبغي على السلطات أن تقوم هي به، إذ يجب خفض عدد السكان بدءاً من وقف تزاحم أعداد هائلة من سكان المناطق البائسة والعاجزة الآن عن سد رمق أبنائها، للزحف نحو الفراديس الاقتصادية التي تمكنت من ناحيتها من حل تلك المعضلة.

كيف؟ بشكل مضمر لا يريد ماتوس أن يقول كيف. ولكننا نعرف اليوم، وتحديداً على ضوء ما يجري في أوروبا ليصل إلى ذروته في الانتخابات الأوروبية أواخر الأسبوع الماضي، أن كثراً في عالم يومنا هذا وتحديداً على ضوء زحف اللاجئين والنازحين والفقراء على القارة العجوز، أن ملايين الأوروبيين – وليس الأوروبيين وحدهم على أية حال – وصولاً وحتى من دون أن يسمع معظمهم بالعالم الاقتصادي مالتوس أو يقرأوا له حرفاً، إلى تبني آرائه بحذافيرها! بل حتى من دون أن يدركوا أن من قد يسميهم بالمالتوسيين الجدد إنما يقصد أن يشتمهم، هؤلاء الملايين من معاصرينا لا يرون حلاً لمشكلاتهم سوى في التخلص من أولئك البائسين الذي يمثلون “عبئاً على البشرية” في رأيهم.

independentarabia

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى