آراء

البازار في إيران وآفاق الرهان على دوره في تغيير النظام السياسي

عبدالباقي اليوسف

عادت التوترات والتهديدات إلى واجهة العلاقات الأمريكية الإيرانية مع وصول الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى الحكم وإلغائه الاتفاق النووي مع ايران، بعد ان كانت العلاقات بين البلدين قد شهدت مرحلة من الهدوء اثر التوقيع على اتفاقية ٥+١ للحد من تخصيب ايران لليورانيوم، تميزت برفع العقوبات في عهد الرئيس باراك أوباما. ولقد تصاعد التوتر بشكل ملفت عندما أعلن الرئيس ترامب في تغريدة له مساندته للمظاهرات التي اندلعت في اواخر شهر ديسمبر عام 2017 رغم أن تغريدتة هذه لم تلق الإستحسان من قبل الشارع الإيراني بسبب العقوبات التي فرضها على إيران. ومع عودة المظاهرات مجدداً منذ بداية شهر تموز الماضي، عزا بعض المراقبين ذلك الى تردي الأوضاع الاقتصادية والمعاشية وانتشار البطالة بشكل واسع بين الشباب. البعض يرى ان اتساع التدخل الايراني في الإقليم، وبشكل خاص في سوريا والعراق ولبنان واليمن، وتقديمها الدعم المادي والعسكري وحتى المشاركة في العمليات القتالية كما يشاهد في سوريا, قد أدى الى تدني الاستثمارات في الداخل، ونقص في تقديم الخدمات – شحة فرص العمل – انتشار البطالة وانخفاض مستوى المعيشة.

هناك آخرون يعزون سبب تدهور الأوضاع في ايران الى انسحاب امريكا من الاتفاق النووي وفرض العقوبات على ايران، بالإضافة الى تحذير الشركات الأجنبية من مغبة الاستمرار في الاستثمار والتعامل مع إيران. هذه المستجدات ادت بالعديد من الشركات الاوربية العملاقة الى سحب استثماراتها، مما ترك آثاراً سلبية على العملة الإيرانية امام الدولار الأمريكي، واحدث مخاوف كبيرة لدى المنتجين والتجار المحليين، وقضى على مدخرات المواطن الايراني. وجهات نظر أخرى ترى ان عدم حل مسألة القوميات في أيران وكذلك وجود صراع بين التيارات السياسية هناك, هي عوامل تذكية للمظاهرات التي شهدتها ايران اواخر عام 2017 والمظاهرات الحالية.

تتجلى هذه الصراعات في التصريحات المتناقضة بين جناحي النظام، فالرئيس الإيراني السابق أحمدي نجاد والمحسوب على التيار المحافظ ألقى مسؤولية ما آلت إليه الأوضاع على كاهل سياسات الرئيس روحاني وطالبه بالإستقالة. في هذا السياق أيضا، القى المرشد على خامنئي المسؤولية على الطاقم الاقتصادي لرئيس الجمهورية. من جانب آخر حذر نائب رئيس الجمهورية إسحاق جيهانكير المحافظين من دون أن يسميهم ” أن مَنْ يحاول أن يبدأ هذه المظاهرات لن يملك نهاياتها . فالمظاهرات التي تشهدها ايران اليوم تبدو وكأنها تأخذ طابعا اقتصاديا ومعاشيا وخدميا بالدرجة الأولى, بالتزامن مع استمرار تردي الحريات الديمقراطية وحقوق الأنسان، ونكران النظام لحقوق مكونات ايران القومية والدينية والثقافية. لذا يتوقع كثيرون ان هذه المظاهرات لن تقتصر على الفئات الحالية، فقد تمتد لتشمل البازار ايضاً، حينها قد تأخذ منحىً سياسيا إذا ما استمر الوضع الاقتصادي بالتدهور. فقد رُفعت في هذه المظاهرات شعارات ذات طابع عابر للحدود وتمس السياسة الخارجية، مثل شعارات: “لا غزة ولا لبنان.. روحي فدا إيران”، و”اترك سوريا وفكر في حالنا…. إلا انه بالنظر والتمعن فيما آل إليه البازار في إيران على مدى عدة عقود مضت، قد يتضح للمرء مدى قدرة البازار في احداث أي تغيير جدي، من عدمه.

بداية كلمة “البازار”، وتعني السوق باللغة العربية، مفهومها في اللغة الفارسية لا يقف عند حدود البيع والشراء، بل يشمل حركة الصناعة والزراعة والتجارة وأسواق المال. كما أن للبازار في ايران دور مهم في الحياة السياسية والاقتصادية والثقافية، وتاريخ البازار في ايران قديم لأهمية موقع ايران الجيوسياسي, حيث ان معظم تجارات أسيا نحو الغرب كانت تمر عبر إيران بما فيه طريق الحرير. البازار كمؤسسة اقتصادية يعود تاريخها إلى عهد السلالة الساسانية (226_651 م)، أما دور البازار في الحياة السياسة الايرانية فيعود الى عهد السلالة القاجارية (1794_1925 م ) ، حيث كان يشكل بصفته رمزا للشعب والاقتصاد تحالفا ثلاثيا مع البلاط والذي يرمز إلى السلطة ونشاطها السياسي والجامع الذي يرمز إلى السلطة الروحية ونشاطها الديني. ومع هيمنة الدول الغربية على معظم مفاصل الاقتصاد الايراني إثر فساد ملوك القاجار ورواج العلاقات الرأسمالية في إيران نتيجة الصناعات القادمة من الدول الأوربية، والتأثير الثقافي لهذه الدول، بالإضافة الى تدني مستوى المعيشة وازدياد عدد الفقراء، والمجاعة التي ضربت اجزاء من أيران، حدث خلل في ذلك التحالف الثلاثي.

فبما أن مصدر معظم مالية الجامع كانت من مساعدات البازار، تحالف الجامع مع البازار ضد البلاط الملكي، وهنا يأتي الدور الرائد للبازار في حركة التنباك (1891م)، وفي الثورة الدستورية عام (1905_1911م ) وكذلك في الحركة الوطنية لتأميم النفط بقيادة الدكتور محمد مصدق عام (1950م)، وكذلك كان للبازارالدور الرائد في الثورة الأيرانية في فبراير 1979حيث انقسم البازار على نفسه، بين من انخرطوا في النظام السياسي واستلموا المناصب في السلطة وحصلوا على امتيازات لتوسيع مصالحهم الاقتصادية واحتكارهم لإستيراد بعض أنواع السلع, واصبحوا يعملون أكثر في مجال التجارة الخارجية والداخلية، وبين من حافظوا على البازار كمؤسسة مدنية، ويعطون أهمية إلى قطاع الإنتاج الداخلي إلى جانب التجارة. بالإضافة الى هاتين الفئتين تكونت فئة جديدة بعد أن سمح الرئيس الأيراني علي أكبرهاشمي رفسنجاني (1989-1997م) بانخراط قادة الحرس الثوري في الشؤون الاقتصادية، حيث ازداد نفوذ شركاته في الاقتصاد في عهد رئاسة أحمدي نجاد لرئاسة بلدية طهران (2002- 2005م) من خلال منحهم تسهيلات للحصول على عقود العمل. ومع فوز أحمدي نجاد بمنصب رئاسة الجمهورية (2005- 2013م) فتح الطريق أمام الحرس الثوري للانخراط في الحياة السياسية متجاوزاً فترة الإمام آية الله خُميني. وكان لهذه الموؤسسة دور فاعل في مساندة أحمدي نجاد للفوز بدورة ثانية لرئاسة الجمهورية، وكذلك في قمع المظاهرات الواسعة التي اجتاحت إيران بقيادة المرشحين لمنصب رئاسة الجمهورية مير حسين موسوي ، ومهدي كروبي اللذان اتهما حكومة أحمدي نجاد بتزوير نتائج إنتخابات الرئاسة في يونيو 2009. في عهده تمكن الحرس الثوري من الهيمنة على الاقتصاد بفضل التسهيلات في الحصول على المقاولات خاصة في قطاع النفط والغاز، كما استفادت شركات الحرس الثوري من العقوبات الدولية على ايران من خلال توسيع مجال استيرادها للسلع عن طريق التهريب بصفتها المسؤولة عن الحدود البرية والبحرية, وهنا تولدت طبقة جديدة من البرجوازية البيروقراطية, منذ بداية الألفية الجديدة صعد التنافس بين أطراف البازار في ايران خاصةً في عهد رئاسة احمدي نجاد، تجلى في المظاهرات التي شهدتها إيران بين أعوام (2009- 2012م) بين أطراف البازار التقليدين والجدد والمتمثليين بالطبقة البرجوازية البيروقراطية. يمكن الملاحظة بأن طبقة البازار التقليديين يغلب على سياستهم الاهتمام بشؤون إيران الداخلية والوطنية، وينعكس هذا في شعارات المتظاهرين التي تتركز على قضايا التنمية والحد من الفقر والبطالة والمطالبة بالكف عن هدر أموال الشعب الإيراني في الحرب في سوريا وغيرها، بينما البرجوازية البيروقراطية تساند التدخل الواسع لإيران في المنطقة, ويبدو أن من مصلحتها أبقاء ايران تحت العقوبات الدولية والعمل باقتصاد الحرب ( الممانعة) للإبقاء على استئثارها بالاقتصاد فرفع العقوبات سيؤدي الى دخول استثمارات الشركات الأجنبية في أيران، وهذا سينعكس ايجاباً على البازار التقليدي ويؤدي الى تقويته وتوسيع نفوذ هذه الفئة التي تفضل رفع العقوبات وعودة العلاقات الطبيعية مع الدول الغربية وفتح الطريق أمام الاستثمارات الاجنبية بما فيها الأمريكية.

تشهد إيران منذ الثورة الأسلامية عام 1979 خللاً كبيراً في العلاقة بين السلطة والمؤسسة الدينية والبازار، فقد ابتلعت السلطة من قبل المؤوسسة الدينية واحدثت الاخيرة انقساماً في مؤسسة البازار، وبالتالي يصعب على البازار في الوقت الحاضر، وفي إطارالمعطيات الحالية لعب دور بارز من خلال المشاركة الفاعلة في إجراء أصلاحات جذرية في بنية النظام السياسي في ظل غياب البديل السياسي، وحركة مدنية ديمقراطية قوية.

المقالة منشورة في جريدة يكيتي العدد 254

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى