التراخيص الإعلامية: عصا الإدارة التي تلوح بها
داريوس درويش
منحت الإدارة الذاتية نفسها، منذ تأسيسها، حق السماح لوسائل الإعلام والصحفيين بالعمل في مناطق سيطرتها شمال شرقي سوريا، وحق منعهم أيضاً. ورغم العدد المحدود لحالات المنع التي طالت بعض وسائل الإعلام في فترات معينة، إلا أن مجرد امتلاك هذا الحق يعني فرض قيود على حرية الإعلام عبر وضع وسائل الإعلام تحت التهديد الدائم بمنعها من العمل، كما يعني محاولة الإدارة الذاتية السيطرة على المعلومات المتوفرة لمواطنيها، وهو ما يظهر مدى رجعية السلطة وتخلفها التكنولوجي، من جهة، ومدى ضيق أفقها الإصلاحي، من جهة أخرى.
اعتقاد الإدارة الذاتية أنها تملك الحق في السيطرة على المعلومات التي تصل مواطنيها هو في جوهره محاولة منها لفرض سلطة أبوية رجعية عليهم، سلطة تتسم بانعدام ثقتها في أهلية المواطنين لتلقي مختلف أنواع المعلومات ومقارنتها وتحليلها للخروج بنتائج “صحيحة” منها، لأنها غير متأكدة من أن تلك النتائج ستتفق مع محدداتها لما هو صحيح وما هو خاطئ، كما تتسم هكذا سلطة بالخوف الشديد من كل ما هو غير مألوف لتغلق الباب أمامه وتترك شقاً صغيراً تدخل منه المعلومات “المعتادة” فقط، كتعبيد الطرق وإزالة القمامة، بحجة أن المعلومات الأخرى عن عدم الكفاءة والفساد وسوء الخدمات وحقوق الإنسان إنما تزعزع ثقة المواطنين بمشروع الإدارة الذاتية وقد يؤدي إلى عدم الاستقرار فيها.
تعتقد الإدارة أيضاً أنها تستطيع السيطرة على تدفق المعلومات بين وسائل الإعلام وجمهورها، تماماً كمن يعيش في عصر ما قبل انتشار الفضائيات والانترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، وهو أمر قد يمكن تطبيقه على وسائل الإعلام المطبوعة فقط، كالجرائد والمجلات، عبر منع طباعتها أو توزيعها، فيما يستحيل تطبيقه على وسائل الإعلام الأخرى الأكثر انتشاراً، كالقنوات الفضائية والصحف الإلكترونية، والتي لا تحتاج إلى وجود فيزيائي بين السكان للوصول إليهم طالما توفرت لديهم أجهزة استقبال البث الفضائي والانترنت، أي أن عدم منح التراخيص لوسائل الإعلام هذه إنما يمنعها فقط من الحصول على المعلومات الصحيحة، والذي لن يشكل عائقاً أمام العديد منها لإمداد جمهورها بالمعلومات، سواء استمدتها بدورها سراً من الواقع أو قامت بفبركتها.
إضافة إلى ذلك، من الصعب افتراض أن هدف الإدارة الذاتية من امتلاك سلطة منح التراخيص أو منعها عن وسائل الإعلام هو حصول المواطنين على المعلومات الصحيحة عبر الحد من نشر الإشاعات والأخبار الكاذبة وإيقاف التحريض ضد الإدارة الذاتية ومؤسساتها وجيشها، إذ من الممكن بسهولة ملاحظة أن وسائل الإعلام التي تنشر المعلومات الكاذبة وتقوم بكل ما سبق هي بالذات تلك التي لا تعمل في المنطقة، سواء لأنها غير مهتمة أو لأنها ممنوعة من العمل هناك، أي أن المنع لا ينقص من تدفق هذا النوع من المعلومات نحو سكان المنطقة، بل يقدم ذريعة لوسائل الإعلام تلك تبرر بها نشر المعلومات الكاذبة أو غير الدقيقة بحجة أن الإدارة الذاتية تصعّب عليها الحصول على المعلومات.
إذاً، الوظيفة الوحيدة التي تؤديها التراخيص الإعلامية هي منع نشر المعلومات الصحيحة، والتي يبدو أن الإدارة الذاتية تهدف من خلالها إلى منع نشر المعلومات المتعلقة بكفاءة الحكومة الحالية وحالات الفساد فيها وغيرها من معيقات الإصلاح الإداري والسياسي. كما يبدو أنها حققت هدفها بشكل ناجح جداً. مثلاً: يعلم الناس جميعاً أنه ثمة فساد في الإدارة الذاتية، ولكن دون توفر أي مادة معتبرة توثق حتى النزر اليسير من هذا الفساد، كما يعلم الناس جميعاً أن الكثير من مسؤولي الإدارة الذاتية، كالقضاة مثلاً أو المعلمين، غير مؤهلين لشغل مثل تلك المناصب والوظائف، ولكن أيضاً دون توفر معلومات تفصيلية ومحددة بدقة، عادة ما يكون الإعلام هي الجهة الوحيدة القادرة على كشفها.يفتقر الإعلام المحلي للتحقيقات الصحفية والدراسات والأبحاث التي تتناول تلك الجوانب المهمة جداً فيما لو أرادت الإدارة الذاتية إصلاح نفسها، ويعود ذلك بشكل أساسي إلى الخوف المزمن لدى وسائل الإعلام من سحب ترخيصها وتعرضها للإغلاق، بما يتضمن قطع أرزاق الصحفيين العاملين فيها، فيما لو تجرأت على تجاوز الخطوط الحمر. ومن الصعوبة تغيير هذا الواقع ما لم تقتنع السلطة في شمال شرقي سوريا أولاً بأن المواطنين ليسوا أبنائها، وأنها لا تملك السلطة على أفكارهم، بل أن وظيفتها هي تقديم الأمن والخدمات لهم، وبالتالي فإن من حقهم معرفة أسباب تقصير السلطة في أداء واجباتها والتأكد أنها تقوم بذلك بكفاءة وفعالية، وأن تتخلى السلطة ثانياً عن التلويح بعصا التراخيص لوسائل الإعلام في مناطق سيطرتها.
مقال منشور في صفحات بالفيسبوك