آراء

التعايش السلمي في إقليم كُردستان العراق

الباحث والأكاديمي: عبد الله جعفر كوفللي

المقدمة

إن التنوع والتعدد والاختلاف في الكون واقع ملموس تحدّث عنه القرآن الكريم في أكثر من سورة، والاختلاف في الحياة الإنسانية ضرورة اجتماعية وإرادة إلهية ، وهو من الموضوعات التي مازالت تشغل بال المجتمعات الإنسانية اليوم بسبب الحروب والصراعات، ومحاولات الهيمنة التي جعلت التعايش بين أفراد المجتمعات أمراً صعباً ، إن لم يكن مستحيلاً في مجتمعٍ يتسم بتعدد وتنوع مكوناته ثقافياً واثنياً وعرقياً.

إنّ الأصل في العلاقات الإنسانية هو التعارف والتعاون، والاستثناء هو التباغض. لذا فإنّ “التعايش” بمعنى العيش المشترك بين بني البشر، يعدّ مفهوماً قديماً، ولد مع ولادة البشر أنفسهم؛ كونه ضرورة لا غنى عنها، إلا أنّ مصطلح “التعايش السلمي” هو من المصطلحات الحديثة، الذي تتباين فيه وجهات النظر إلى حد ما؛ لأنّ ظهوره ارتبط ارتباطاً وثيقاً بالسياسات الخارجية للدول وما نتج عنها من صراعات ونزاعات، وبالتالي، وفي ظلّ الصراعات العالمية المستمرة، طرحت تلك الدول- في وقتٍ ليس ببعيد- مفهوم “التعايش السلمي” بدلاً عن مفهوم ما يمكن تسميته بـ”التعايش الحربي”

يدعو التعايش السلمي بين البشر جميعاً إلى جوّ من الإخاء والتسامح بين كلّ الناس بصرف النظر عن أجناسهم وألوانهم ومعتقداتهم.

التعايش الإنساني في داخل المجتمع الواحد مطلوب موضوعيًاً واجتماعيًاً، مهما اختلفت الأفكار والمفاهيم والعادات والتقاليد والقيم والمبادئ، فالتعايش والتفاهم وقبول الآخر يتمّ عن طريق التواصل بشكلٍ مباشر، وبشكلٍ يومي أو شبه يومي في القرية والمدينة والمُجتمع الواحد بشكل عام، ولا يجوز الهروب أو رفض هذا الواقع، الذي يضمّ في أكنافه تناقضات واختلافات عديدة، في وجهات النظر أو العقائد والمفاهيم وخلافه.

منذ زمن بعيد، تعيش الأقليات العرقية والدينية الأخرى، على هذه الارض الطاهرة، ارض كُردستان، بالإضافة إلى الشعب الكُردي، فهذا الشعب لديه خصوصية عندما يتعلّق الأمر بالتعامل مع الآخرين في العيش تحت سقفٍ واحد ، دون أي مشكلة، وهذا هو طبع الكُرد لحقوق الناس مع الآخرين، ليس الآن انما منذ ظهور الإنسانية على الأرض.

مفهوم التعايش السلمي

التعايش يعني حالة العيش المشترك التي تجمع مجموعتين أو اكثر تختلف عرقياً أو أثنياً أو فكرياً عن بعضها البعض مع احترام كلّ مجموعة لمعتقدات المجموعة أو المجتمعات الأخرى وقدرة هذه المجتمعات على حلّ خلافها بصورةٍ سلمية.

التعايش: “هو الاحترام والقبول والتقدير للتنوع الثقافي ولأشكال التعبير والصفات الإنسانية المختلفة. وهذا التعريف يعني قبل كلّ شيء اتخاذ موقف ايجابي فيه إقرار بحق الآخرين في التمتع بحقوقهم وحرياتهم الأساسية المعترف بها عالمياً.

التعايش: هو نوع من التعاون الذي يبنى بالثقة، والاحترام، ويهدف إلى إيجاد أرضيّةٍ تتّفق عليها الأطراف المختلفة، ويتمّ عن طريق الاقتناع الداخلي، والرّضا، والاختيار الكامل. ويقتصر الحوار بين الأديان على التعريف بمبادئ كلّ ديانة، والدّفاع عنها، ومكافحة الفوارق الاجتماعية، وصيانة كرامة وحقوق الأطراف. والتّحاور بين الأديان أو التّعايش فيما بينها يعني إيجاد النقاط المشتركة بينهم، وإبراز منظومة القيم الإنسانيّة المشتركة؛ كالتسامح والمحبّة، وضمان حقوق الإنسان وسلامته.

ويعرف التعايش السلمي ايضاً من وجهة نظر سياسية واجتماعية أنه (آلية سلمية لتقاسم الموارد و العيش المشترك وذلك لاعتقاد راسخ بأنّ العنف يولّد العنف و أنّ لابديل عن التعايش والاستفادة من الموارد المتاحة.

إنّ التعايش السلمي لا يقوم فقط بين الدول وإنما بين الشعوب أيضاً، وهنا تكمن الأهمية والضرورة معاً، إذ أنّ محرك السلم كمحرك الحرب تماماً ليس علاقة دولة بدولة، وإنما بصورة أعمق علاقة الشعوب بعضها ببعض.

هذا ما أكّدته منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو) حينما حثّت على ضرورة تعايش الأجيال الحاضرة مع أجيال المستقبل في ظلّ أجواءٍ يسودها السلام والأمان واحترام حقوق الإنسان والحقوق الأساسية وترى أنّ على الأجيال الحاضرة تجنيب أجيال المستقبل المعاناة الناجمة عن الحروب من خلال الحيلولة دون تعرّضهم للأضرار الناجمة عن النزاعات المسلحة، ووضع الصيغ المناسبة التي تحدّ من استخدام الأسلحة ضد المبادئ الإنسانية.

يؤيّد هذا المفهوم القول بأنّ التعايش: هو القبول بوجود الآخر والعيش معه جنباً إلى جنبٍ دون سعي لإلغائه أو الإضرار به سواءً كان هذا الآخر فرداً أو حزباً سياسياً أو طائفة دينية أو دولة مجاورة أو غير ذلك.

كما أنّ التعايش هو “مجتمعات متكاملة يعيش فيها الناس من مختلف الأعراق والأجناس والأديان منسجمين مع بعضهم البعض، ولا يتطلّب أدنى فكرة للتعايش سوى أن يعيش أعضاء هذه الجماعات

ومن جانبٍ آخر إنّ التعايش السلمي هو حالة من العلاقات الدولية تعيشها دول لها أنظمة اجتماعية متباينة أو ذات عقائد متعددة جنباً الى جنب دون حرب.

التعايش السلمي في إقليم كُردستان .

ليس هناك مجتمع أو دولة في عالمنا المعاصر لا تطمح نحو الأمن والسلام، وأن يعيش أبناؤها متحدين متآلفين ، يقبل بعضهم بعضاً ولا يسعى بعضهم لإفناء البعض الآخر، فقد أدركت البشرية بعد تجارب مريرة أنّ الخاسر الأول من عدم الاستقرار وغياب الأمن والسلم الداخلي هم أنفسهم قبل غيرهم.

واليوم حيث أصبحت حدود الدولة الحديثة تجمع مختلف الأعراق والقبائل والشعوب والملل والأديان، فإنّ ثقافة التعايش السلمي وقبول الآخر قد باتت أكثر أهمية من ذي قبل .. وأصبح لزاماً على كلّ دولة أن تسعى لترسيخها بين أبناء الوطن الواحد ، وتشرع من النظم ما يقوم على حمايتها من يد الغدر والاغتيال .. إذ لو فقدت هذه القيم الأصيلة فستعاني الدولة من عدم الاستقرار ومن مخاطر عديدة تتعلق بالأمن والسلم المجتمعي.

يقول الكُرد إنّ كل الشعوب تسكن أوطانها الا نحن، فكُردستان تسكن فينا، حيث تراها وتسمعها في كلّ الاغاني والموسيقى والفلكلور والحكايات وأساطير الاولين، حتى غدت عنوان الانتماء لكلّ الأعراق والأديان في التسامح والتعايش، فمنذ القدم وحتى قبل نشوء الكيانات السياسية الحديثة تعايشت في كُردستان مختلف الأعراق والأديان، وكما هي تضاريس هذه البلاد واختلاف أشكالها، جبالاً وسهولاً ووديان، توزّعت الكتل البشرية وانتماءاتها في العرق والدين، بين الكُرد والكلدان والآشوريين والأرمن والسريان، ومن العرب والتركمان، في كلّ معتقداتهم الدينية والمذهبية، حيث جمعتهم أرضٌ تمازجت فوقها كلّ الحضارات حتى غدت في يومها الأول نوروز سفيرة الانسانية الى كلّ العالم.

إنّ التعايش الأبدي في كُردستان عبر التاريخ القديم والحديث ينشر حضارة راقية لدى كلّ سكان هذه المنطقة من العالم، ليس هنا في كُردستان العراق فحسب وإنما هناك أيضاً في أجزائها الثلاثة الأخرى، حيث يتعايش المسلمون والمسيحيون والايزيديون من الكُرد والعرب والكلدان والاشوريون والأرمن في تسامح وتعاطي خلاق منذ أجيال وأجيال، فقد كانت كُردستان برمتها، وما تزال، تنتهج مبدأ التعايش والتسامح الراقي والنبيل بين الأديان والمذاهب والأعراق برغم محاولات المتطرفين من العنصريين عرقياً أو دينياً تمزيق هذا النسيج.

دور جهاز آسايش إقليم كُردستان في حماية التعايش السلمي

تلعب الأجهزة الأمنية كإحدى المؤسسات الفاعلة ضمن هيكلية أية دولة أو حكومة دوراً متميزاَ ومؤثراًَ في تهيئة وتأمين البيئة الآمنة والمستقرة لجميع المواطنين وتعمل على رصّ صفوف الشعب ليكون جسماًَ واحداًَ ومنسجماً وتتخذ الإجراءات الكفيلة لمنع التمزق والتفرقة والحيلولة دون التجزئة وذلك برصد كلّ المحاولات التي تهدف النيل من وحدة الشعب ، و وضع الخطط المناسبة من أجل بناء جسور التواصل بين الأفراد وقيام ودعم التعايش السلمي بين جميع المكونات والطوائف والتعامل معهم دون تمييز في العرق أو القومية أو الدين أو المذهب أو الاتجاه السياسي وتكون المواطنة أساس التعامل مع الجميع، وتحارب كلّ أشكال التطرف والتعصب ، وتعمل من أجل بناء أمن فكري سليم وناضج أساسه حب الوطن والتضحية من أجله.

أدركت حكومة إقليم كُردستان منذ تأسيسها بعد الانتفاضة الشعبية وإجراء أول انتخابات ديمقراطية مباشرة في 19\5\1992 أهمية الامن وما لها من تداعيات على جميع مجالات الحياة، فبادرت بتأسيس جهاز آسايش إقليم كُردستان الذي قطع مراحل وأشواط عديدة إلى أن استقرّ به المقام على الشاكلة الحالية ولعب هذا الجهاز دوراً فاعلاً في حماية المواطنين وتعزيز أسس وقيم التعايش السلمي بينهم دون تميز من خلال تطبيق القوانين النافذة التي تشكّل إطاراً قانونياً لعمله.

القانون رقم (5) لسنة 2011 المسمى (قانون جهاز آسايش إقليم كُردستان ـ العراق) شرع لينظم عمل جهاز اسايش الإقليم بأعتباره من احدى تشكيلات مجلس أمن الإقليم ويبين المهام والوظائف التي يتولاه هذا الجهاز اذ نصت المادة ( 3)يمارس الجهاز المهام الاتية بالتنسيق مع الجهات ذات العلاقة.

يمثل مواد هذا القانون اساس وإطار قانوني لعمل هذا الجهاز من أجل تحقيق تعايش سلمي بين أبناء المجتمع الكُردستانى وفق ما هو مبين أدناه

أولاً: التعامل على أساس المواطنة

يتعامل جهاز اسايش إقليم كُردستان على أساس المواطنة مع جميع المواطنين سواءً من ناحية تامين وحماية حياتهم وممتلكاتهم أو من ناحية اتخاذ الاجراءات القانونية بحق المخالفين والذين يعكّرون صفوة حياة المواطنين أو يشكّلون مصدراً لتهديد أمن الإقليم ومنها حماية الحريات العامة وحقوق الانسان دون تميز في العرق أو القومية أو الدين او المذهب لأنّ المواطنة في ابسط تعاريفها تعني “علاقة بين فرد ودولة كما يحدّدها قانون تلك الدولة وبما تتضمنه تلك العلاقة من واجبات وحقوق، والمواطنة تدلّ ضمناً على مرتبة من الحرية مع ما يصاحبها من مسؤوليات، وهي على وجه العموم تسبغ على المواطنة حقوقاً سياسية”.

ثانياً: حماية الأمن الاقتصادي

يعمل جهاز آسايش إقليم كُردستان على حماية الاقتصاد الوطني من خلال اتخاذ الاجراءات القانونية ضد الجرائم المضرة بالاقتصاد مثل الفساد الاداري والمالي وغسيل الاموال والرشوة والاتجار بالبشر والمخدرات وان حماية الامن القتصادي المتمثل بالامن الغذائي والصحي والمائي والبيئي ياتي في بداية سلم اولويات عمل هذا الجهاز ومن ناحية اخرى فإن حماية المصالح والمنشات الاقتصادية منها النفطية والسدود والمنافذ الحدودية يشغل حيزاً كبيراً ضمن عمل هذا الجهاز، ويتبين من نص الفقرات أعلاه من المادة الثالثة:

رابعاً: حماية الاقتصاد الوطني.

خامساً: تأمين أمن المطارات والسدود والمنشآت النفطية والمنافذ الحدودية.

ثانية عشر: حماية الأمن الغذائي والصحي في الإقليم.

ثالثاً: حماية الأمن الثقافي

ويتبين من نص الفقرة سادساً: الحفاظ على تراث وثقافة شعب كوردستان العراق بكافة مكوناته القومية

والدينية والمذهبية. ما يوليه جهاز آسايش إقليم كُردستان من أهمية لحماية تراث وثقافة شعب كُردستان بكافة شرائحه والحفاظ عليه.

رابعاً: حماية الأمن الاجتماعي

الأمن الاجتماعي لا يأتي من خارج المجتمع، بل يتحقق على أيدي أبنائه وبجهودهم المتضافرة المتناسقة، بمعنى أنه مسؤولية الجميع، كل حسب موقعه ونوع وظيفته ومجال تخصصه

يعتبر الأمن الاجتماعي حاجة أساسية تطمح إليها كل الشعوب، ومصلحة وطنية حيوية تنشدها الدول بأجهزتها ومؤسساتها

ومن نص الفقرات التالية من المادة الثالثة يتبين مدى الاهمية التي يوليه الجهاز لحماية الامن الاجتماعي:

ثامناً: تحقيق الأمن والاستقرار الاجتماعي ومكافحة الجريمة المنظمة بكافة أنواعها وكذلك مكافحة الجرائم الارهابية والمخدرات.

تاسعاً: ضمان أمن وسلامة وسرية الاتصالات وسلامة التنقل في الإقليم.

عاشراً: المحافظة على أماكن العبادة والمواقع الدينية وتوفير الأمن لها.

حادية عشر: تأمين أمن وسلامة المراكز السياحية والمواقع الأثرية والتاريخية والآثار.

خامساً: إنسانية العمل الأمني

إن العمل الامني الذي يقدمه العاملون ضمن الاجهزة الامنية يأتي في رأس هرم حاجيات الانسان؛ لان العمل الامني يعني خلق بيئة أمنة من كل مصادر الخوف و الفزع والتهديد داخليا وخارجيا لينعم الانسان بباقي جوانب حياته السياسية والاقتصادية والتنموية، الخ وان الجهود المبذولة من قبل رجل الامن من تحديد مواطن التهديد و صدها تاتي في اطار انساني بحت اي انه يقدم هذه الخدمة الجليلة الى الانسان دون تميز وبعبارة اخرى فانه يهدف الى بناء مجتمع امن يعيش فيه الانسان بكل الطوائف والاديان والقوميات والالوان ويسعد بسعادتهم وان اي اختراق في سبيل زعزعة استقرار مجتمعه يحمل نفسه المسؤولية و التقصير وانه يقدّم حياته فداء لشعبه ويعمل وراء الكواليس كشمعة يحترق ليضيئ درب الانسانية وان حماية حياة اي انسان وانقاذه من أهم أهدافه وأعماله وطبيعة عمله يفرض عليه الحيادية والانسانية والتعامل على اساسه مع الناس دون اي اعتبار لافكار سياسية او دينية ويقف بحزم ليمنع اي تجاوز على حقوق الانسان وحياته وممتلكاته.

سادساً: عمل جميع الشرائح ضمن الجهاز

يضمّ جهاز آسايش إقليم كُردستان بين صفوفه مجموعة كبيرة من الضباط والمنتسبين من الاديان والقوميات والمذاهب، إذ يعمل الكُردي الى جانب التركماني والعربي وكذا المسلم بجانب اليزيدي والمسيحي والكاكائي كجسم واحد دون تمييز أو فرقة وهم جميعاً متساوون في الحقوق والواجبات وجميعهم قدّموا تضحيات واختلطت دماءهم تحت خيمة هذا الجهاز ويدافعون ببسالة عن أمن الإقليم دون تردد وخوف ويرسمون أجمل لوحة فنية في الشجاعة والفداء ويقدّمون مثالاً نموذجياً وتجربة فريدة من التعايش السلمي والأخوة الصادقة والمحبة والالفة، وهذا يمثّل مرسماً صغيراَ لإقليم كُردستان ومنها ينطلق التعايش السلمي ليعانق الأعالي على أسس متينة من شعور الجميع بالأمان والطمأنينة.

المقال منشور في جريدة يكيتي العدد “309”

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى