التفنّن في محاولات نفي الوجود الكردي في سوريا
رياض علي
على الرغم من أنّي لا أحبّذ الخوض في موضوع المكوّنات السورية ومسألة محاولات الإقصاء والتهميش التي تمارس من قبل البعض ضدّ البعض الآخر، وأخصّ بالذكر تلك المحاولات التي يلجأ إليها البعض من القوميين العرب الذين يسعون بشتّى السبل إلى إقناع الآخرين بأن سوريا تتميّز بلون واحد عروبي إسلامي سني. الوجود الكردي
مع أنّ ما يزيد من جماليّة سوريا ويمنحها رونقا لافتاً هو الفسيفساء المتداخل الذي لا يشكّل عقبة في طريق التعايش السلمي الجميل، بل على العكس سيكون عاملاً مؤثّراً في ترسيخ هذا التعايش وإدامته، ولعلّ أكثر محاولات الإقصاء تجليّاً في الحالة السورية هو محاولة البعض (وهم قلّة قليلة) في نفي الوجود الكردي الأصيل في سوريا، وقد تجنبت الحديث بهذا الخصوص كثيراً لأسباب عدّة لعلّ أهمها هو أنني كردي سوري وقد يفسر الأمر بأنه من باب التعصّب القومي الأعمى، وثانيهما هو أنّ زيادة الخوض في هذه المسألة، وبغضّ النظر عن صوابية الطرح والردّ من عدمه، قد يزيد من حالة الشرخ والتباعد بين أبناء البلد الواحد، في وقت نحن فيه بحاجة إلى نبذ تلك الأسباب وتقزيمها.
لكن المحاولات الميؤوسة المتكررة من قبل البعض في إلغاء هذا الوجود في سوريا ولا سيما في مناطق الجزيرة السورية وكوباني/عين العرب وعفرين، باتت أمراً فاقعاً ومقززاً، وأصبح هؤلاء يتفننون في طرق النفي والإنكار، فمنهم من يذهب إلى القول أنّ الوجود الكردي في تلك المناطق لا يتجاوز العشرين والثلاثين بالمئة وبدون دراسة منهجية واضحة، ووصلت الجرأة بالبعض منهم إلى القول بأنّ نسبة الكرد في عفرين قبل عام 2011 لم تتجاوز الخمسين بالمئة، وفي كوباني لم تتجاوز الستين بالمئة، وفي القامشلي لم تتجاوز الثلاثين بالمئة.
وهؤلاء هم أنفسهم يرتعبون من كلمة الفيدرالية أو الحكم الذاتي في تلك المناطق، فعلى فرض أنّهم مقتنعون بتلك النسب التي يزعمونها، فلماذا كل هذا الخوف من الفيدرالية ما دامت الأغلبية هي التي ستدير المنطقة عبر ممثليها؟، والأغلبيّة حسب منطقهم قطعاً لن يكونوا أكراداً كون نسبة وجودهم لا تخوّلهم الوصول إلى مراكز القرار عبر الانتخابات الديمقراطية التي نأملها في سوريا الجديدة؟، بل إنّ أحدهم اختصر على الباقين مسألة النسبة عندما قال بأنّ نسبة الكرد لا تتجاوز الواحد بالمئة من مجموع سكان سوريا.
ومنهم من يتحفنا حيناً بأنّ الأكراد السوريون قدموا جميعاً من تركيا عقب الثورات الكردية المتعاقبة ضدّ الدولة التركيّة، ويخصّون بالذكر ثورة الشيخ سعيد عام 1925 وما تلاها من ثورات تّم إخمادها من قبل الدولة التركيّة آنذاك، ويصفون الكرد السوريين على هذا الأساس بالوافدين الضيوف حيناً وباللاجئين حيناً آخر، وإن كان الأمر كذلك، فهل يعقل أن يكون الحسّ القومي عند هؤلاء “الوافدين اللاجئين” عالياً إلى درجة المطالبة بالحقوق القومية على هذه الأرض التي لم يمضِ على وجودهم فيها قرن من الزمان،
وبالمقابل نجد أكراداً مقيمين في دمشق واللاذقية وريفها قدموا أيام القائد الإسلامي الكردي صلاح الدين الأيوبي، وهؤلاء لم يطالبوا يوماً بحقوق قومية سياسية على هذه الأرض وقد مضى على وجودهم فيها قروناً من الزمن، وكون الفترة الزمنية لوجودهم هي أضعاف مضاعفة على الوجود الكردي في المناطق الثلاث “الجزيرة، كوباني/عين العرب، عفرين” فالمنطق يقتضي أن يكون سقف المطالب القومية من قبل أكراد دمشق واللاذقية أعلى والشعور القومي لديهم أكثر تأجّجاً كون حجّتهم ستكون أكثر إقناعاً، طبعا وفقاً للمنطق الأعوج الذي يسير عليه أصحاب نظرية الوافدين الضيوف واللاجئين.
ومنهم من تتفتّق عبقريته بفكرة مفادها؛ بأنّه لا وجود للشعب الكردي أصلاً، بل هؤلاء “الكرد” عبارة عن مجموعة من العرب ألجأتهم الظروف إلى السكن في الجبال واختراع لغة جديدة خاصة بهم هي اللغة الكردية، ولا أعلم لماذا سيقوم هؤلاء “العرب” الذين ألجأتهم الظروف إلى الجبال إلى اختراع لغة جديدة مادامت لغتهم العربية موجودة أصلاً، وهي اللغة المعروفة بكثرة مفرداتها وغزارة دلالاتها؟. ومثل هذا الطرح يتوافق تماماً مع سياسة التعريب والصهر في بوتقة “الأمة العربية” التي مارسها حزب البعث العربي الاشتراكي في سوريا والعراق عقوداً من الزمن، ولم يفلح في إلغاء الهوية الكردية وخصوصيتها في الدولتين.
لست هنا في معرض تأكيد الوجود التاريخي للكرد في سوريا ولا سيما في تلك المناطق التي ذكرناها في المقال، لأنّ هذا الأمر لا يحتاج إلى الكثير من الجدال والسجال، وتمّ تأكيده من قبل الكثير من المؤرخين وعلماء الآثار، إضافة إلى الوثائق التاريخية التي تعود إلى أيام الوجود العثماني ومن بعده الفرنسي في سوريا، وكذلك الرُقُمْ والآثار التاريخية التي عُثِرَ عليها في المناطق الثلاث والتي تؤكّد قدم الوجود الكردي في المناطق المذكورة حتى ماقبل الميلاد، وأهالي وسكان المنطقة بكل مكوناتهم يعرفون هذا الأمر جيداً.
أما مسألة النسبة والتناسب، فيمكن حلّ هذه “المعضلة”، عند من تشكل لهم هذه المسألة شغلهم الشاغل، من خلال الرجوع إلى سجلات الأحوال المدنية ومعرفة النسب بكل سهولة، على الرغم من سياسات التعريب والتهجير القسري التي مورست من قبل حزب البعث بحقّ الكرد في تلك المناطق، وأشهرها مسألة الحزام العربي التي جاءت نتيجة دراسة مقدمة من قبل الملازم أول محمد طلب هلال الذي أشار إلى الوجود الكردي الكبير و”الخطير” في الجزيرة السورية.
وبناء عليه تمّت مصادرة آلاف الهكتارات من الأراضي الزراعية للكرد، وتوزيعها على العرب السوريين الذين استُجلِبوا من محافظة الرقة بسبب غمر أراضيهم بالمياه بعد بناء سدّ الفرات، وكذلك المرسوم 41 لعام 2004 الذي ربط تملك العقارات في تلك المناطق بالحصول على الموافقة الأمنية، وكان من شبه المستحيل على الكردي الحصول على تلك الموافقة، وهذا ما يعرفة جيداً أهالي المنطقة ولاسيما العاملون في المجال القانوني والبيوع العقارية، وكذلك مسألة حرمان مئات آلاف الكرد من الجنسية السورية لعقود من الزمن والتي دفعت الكثيرين إلى اللجوء إلى الدول الأوربية للحصول على وثيقة إثبات وجود، والحرمان من العمل في الكثير من المجالات والفصل من المعاهد التعليمية وغيرها من السياسات الدافعة للهجرة وترك الوطن.
وما نودّ التأكيد عليه هنا هو أنّ هذه العقلية البعثية وهذه الطروحات الإقصائيّة لا يمكن أن تكون حلاً لبناء سوريا الجديدة التي نطمح إليها، فالوجود الكردي موجود في سوريا ولا يمكن إنكاره مهما تفنّن كارهوه في اختراع الحجج والذرائع لنفيه، وبالتالي علينا كسوريين التعامل مع هذه المسألة وفقاً لحقيقتها لا وفقاً لما يريده بعض المتعصبين قومياً، وأن نتقبل بعضنا البعض في ظلال الحديقة السورية التي تزيدها تنوع واختلاف أشجارها وأزهارها رونقاً وجمالاً وغنىً، والسياسات الإقصائية ومحاولات نفي الآخر سبق ومارسها حزب البعث كما ذكرنا في العراق وسوريا، ووصلت في العراق إلى حدّ تستخدام السلاح الكيميائي ضدّ الشعب الكردي وعمليات الأنفال التي دامت لسنوات، ومع ذلك لم يفنى الشعب الكردي ولم تفنى قضيته، فسورية لا يمكن أن تبنى إلا بجهود كل السوريين ولأجل كل السوريين، والعودة إلى سياسات الإلغاء وعدم تقبّل الآخر ومحاولة صهره في بوتقة عنصريّة واحدة، ستكون نتيجتها قطعاً العودة بسوريا إلى حقبة الدماء والدموع التي أثقلت كاهل السوريين وأرهقتهم لعقود من الزمن.