آراء

التيارات الفكرية في سوريا

تتمة العدد السابق

د. أحمد برقاوي

التيار الأيديولوجي الإسلامي :

سمّينا التيار بالأيديولوجي الإسلامي، لأننا نريد أن نميّز بين الدين السائد شعبياً من جهةٍ، وبين الدين الذي يتحوّل إلى وعيٍ سياسي من جهة ثانية، وهذا أمرٌ على غايةٍ من الأهمية المنهجية حين يخف الباحث للحديث عن تيارٍ إسلامي يطرح مشكلات المجتمع والسياسة.

وتشكّل سوريا واحدة من الدول العربية التي تنتج في الغالب الأفكار إلى المنطقة العربية، لكنّ الإسلام السياسي غالباً ما ارتبط بنشوء حركة الإخوان المسلمين المؤسّسة مصرياً . ولكن حتى هذه الحركة فقد لبست في سوريا لبوساً شامياً على يد مصطفى السياسي الذي جعل من الإسلام السياسي أيديولوجيا ليبرالية من جهة، حيث أكّد مفهوم الديمقراطية والمشاركة البرلمانية في الخمسينات، وحيث مال إلى اعتبار الإسلام ديناً اشتراكياً، وإنّ هناك اشتراكية إسلامية من جهة ثانية، وما كان هذا ليتمّ لولا المناخ الذي ساد في الخمسينيات، مناخ الديمقراطية والاشتراكية .

غير أنّ نكوصاً ظهر في السبعينات والثمانينات أعاد الإسلام السياسي إلى مفهوم الحاكمية لله وتغيير العالم باليد أي بالعنف .

لن أعود إلى التاريخ، حسبي أن أقول إنّ في سوريا المعاصرة اتجاهين أيديولوجيين إسلاميين، أي أنّ التيار الإسلامي ذو شعبتين :

الأول : هو التيار الكلاسيكي السلفي، وممثله محمد سعيد رمضان البوطي، والثاني: تيار إصلاحي يمثّله محمد شحرور وجودت سعيد ومحمد حبش .

والمشكلة الأساسية في التيار الإسلامي الأيديولوجي هي الحكم، بل إنّ مشكلة الحكم مازالت أهم مشكلة في كلّ التيارات الإسلامية العربية المعاصرة .

يشكّل البوطي تياراً له أتباع كثر في سوريا، وهو من أتباع الحاكمية لله، إذ يرى أنّ الحاكمية لله وحده، وهو المشرع لعباده في شتى شؤونهم المتعلقة وآخرتهم، وهو المرجع في حلّ كلّ مشكلةٍ من مشكلاتهم، وإقامة كلّ تنظيمٍ ودستور لحياتهم، ومن جحد ذلك فهو كافرٌ بالله ورسوله؛ وإن صلّى وحجّ وصامَ .

قامت على ذلك أدلة العقل والنقل من الكتاب والسنة، وتمّ على ذلك إجماع المسلمين كلّهم .

ويتساءل البوطي : ما وظيفة الإنسان إذاً ؟ ويجيب: إنّ وظيفته التنفيذ فقط، إنه مسؤولٌ عن تنفيذ كلّ حرفٍ من القانون الذي أنزله الله وألزمه به، ولا يجتهد في ذلك إلا حيث أمره الله بالاجتهاد، ولا يلجأ إلى الشورى في الرأي أو الحكم إلا حيث لا نصّ صريحاً في كتاب ولا سنة وحيث لا إجماع .

أما عن السؤال : هل شهد التاريخ دولة كهذه ؟ فإنه يقول :«بأنّ من يفترض على الحاكمية لله بحجة أنّ التاريخ لم يشهد تحقق المجتمع الإسلامي إلا في حقبة يسيرة هي بضع سنوات من آخر حياة النبي (ص )، ونهاية خلافة عمر بن الخطاب، ثم سنوات يسيرة من عهد عمر بن عبد العزيز، فإنه يقدّم معذرة كاذبة ليس لها ظلٌّ من الحقيقة والواقع، ويرى أنه قد ظلّ الحكم، والمجتمع الإسلاميان قائمين في عصر الصحابة، والتابعين وفي عهد الأمويين ثم عصر العباسيين وبقي ممتداً إلى صدر الخلافة العثمانية، ولكنّ قيام المجتمع الإسلامي شيء والعصمة من الذنوب شيء آخر » .

والحق إنّ فكرة الحاكمية بعودتها الجديدة عند البوطي والقول بأنّ جاحد هذه الفكرة هو كافر بالله، قد أدّت، درى أم لم يدرِ، إلى فكر الخروج على الحاكم الجائر، الذي لا يلتزم بفكرة الحاكمية، كما أنها تفضي إلى نكران مفاهيم الديمقراطية والعلمانية والمجتمع المدني..إلخ .

على النقيض من البوطي يطرح محمد شحرور الإصلاح الديني في كتابين مهمين: القرآن والكتاب، ودراسات إسلامية معاصرة في الدولة والمجتمع .

ونحن سنهمل الكتاب الأول لأنه يقوم على تأسيس لاهوتٍ جديد للإسلام، أما الثاني ، فيحتوي على آرائه في الدولة والمجتمع .

يطرح محمد شحرور السؤال التالي : هل الدولة الإسلامية علمانية؟ ويجيب :« الدولة العلمانية كما أراها هي الدولة التي لاتأخذ شرعيتها من رجال الدين (الهامانات) وإنما تأخذ شرعيتها من الناس؛ فهي لهذا دولة مدنية غير مذهبية وغير طائفية, وبما أنّ الإسلام لا يعترف أصلاً برجال الدين، وليس بحاجةٍ إليهم ؛ ليعطوه الشرعية، والهامانات هم من يدّعون الاختصاص بالدين والحفاظ عليه، والرقابة على تنفيذه بين الناس، فإنّ أهل الحلّ والعقد في الإسلام هم نوّاب الشعب المنتخبين بالاقتراع الحرّ، الشورى في شكلها المعاصر، والدولة العلمانية هي الدولة التي تتعدّد فيها الآراء، وتصان فيها حرية الرأي والرأي الآخر ».

وانطلاقاً من هذا الرأي يصل شحرور في قراءته الجديدة إلى حدّ التمييز بين إسلام ليبرالي وإسلام محافظ، أما الإسلام الليبرالي فهو الذي :

1_ يقرّ بأعراف وتقاليد كلّ شعوب الأرض مالم تتجاوز حدود الله .

2_ يفرض بأنّ الحرية والكرامة الإنسانية هبة الله إلى الناس .

3_ التشريع الإسلامي فيما يتعلّق بالزواج والطلاق والإرث وقانون الأحوال الشخصية، تشريع مدني ضمن حدود الله .

أما موقف الإسلام من الاستبداد فهو أي شحرور يميل إلى الديمقراطية ويتخذ موقفاً واضحاً ضد كلّ أنواع الاستبداد .

فهو ضد الاستبداد العقائدي ويقصد القناعة بأنّ أعمال الإنسان و رزقه مكتوبة عليه منذ الأزل، وهذا ما يجب رفضه جذرياً.

وضد الاستبداد المعرفي: استبداد الموضوع والمنهج واستبداد الأداة والنظام .

وضد الاستبداد الاجتماعي: وهو كلّ العلاقات الاجتماعية الموروثة من عهد الانحطاط وما يمثّلها، والراسخة باسم الأعراف، والتي وصل التطرف فيها أحياناً إلى إدراج التقاليد الاجتماعية تحت باب الحلال والحرام .

وهو ضد الاستبداد الاقتصادي والسياسي

لاشكّ أنّ وصول الإسلام الأيديولوجي إلى هذا المستوى بدفاعه عن العلمانية والديمقراطية بوصفهما مفهومين غير متناقضين مع الإسلام، بل هما مفهومان مشتقّان من الإسلام لهو أقصى درجات راديكالية الإصلاح الديني.

التيار الحداثوي :

ينطوي تحت التيار الحداثوي السوري اليوم مثقفون أتوا من أحزاب قومية وماركسية بالأصل . وكان لسان حالهم يقول إنّ المشكلة الأساسية في الوطن العربي هو الحداثة، والوصول إليها .

وكان السّباق لهذا الاتجاه هو ياسين الحافظ، لقد تغلّب ياسين الحافظ على جميع الأيديولوجيات أو التيارات الفكرية التي كانت سائدة في سوريا . بدءاً من التيار الديني، وهو يافع، مروراً بالتيار القومي_ البعثي، والناصري، ثم بالتيار الماركسي وأخيراً وبعد رحلة إلى باريس رجع حداثوياً متحرراً من الأيديولوجيات، كما يقول هو في كتابه الهزيمة والأيديولوجيات المهزومة .

لقد انطلق ياسين الحافظ في حداثويته المدافعة عن الديمقراطية والتقدم والعقلانية من مفهوم التأخر التاريخي وليس التخلف . والذي يفسّره مفهوم التراث الحضاري .

إن التأخر مفهوماً يعني ضرورة اللحاق بالتقدم، وهذا بدوره يساعد على بناء نظرة تاريخية كونية للواقع العربي .

لقد صار النقد منصبّاً هذه المرة، عند الحافظ ،على اللاعقلانية والتأخر والاستبداد وغياب الآخر .

وحافظ الجمالي هو الآخر، انتقل من التيار القومي العربي إلى التيار الحداثوي ولكن في صورة الدفاع عن الحرية وخاصةً في كتابه « عربي يفكّر» .

وأنطون مقدسي قد أقام قطيعة مع إرثه القومي حين لم يعد يرى في مشكلات الأمة سوى غياب الحداثة والعقلانية والديمقراطية والحرية. ولكنّ مقدسي يعطي المسألة بعداً فلسفياً. عبر مفهوم الفسحة، والتي هي جملة الإنجازات الثقافية والسياسية والاقتصادية والدينية والأيديولوجية وغيرها مما يأتي من أطراف العالم الأربعة .

والفسحة ساحة صراع وساحة حوار .

وحين الحديث عن الفسحة العربية، فإنه يتحدّث عن فسحتين أساسيتين: فسحة الجاهلية: وسمتها البيان والفصاحة الشعر .

وفسحة القرآن : حيث المعنى والمبنى متحدان عبر مفهوم الله .

سؤال مقدسي :كيف السبيل إلى صياغة فسحة عربية تقوم على تأليفٍ بين البيان والحداثة التي هي كتابة صماء .

كيف لها أن تتحدّث بلغة الأتمتة .

بكلمةٍ أخرى: كيف للعرب أن يصلوا إلى مرحلة الحداثة مع الحفاظ على مفهوم الإنسان غير المغترب بالتقنية .

وفي كلّ الأحوال ، إنّ الخطاب الحداثوي السوري لا يختلف عن الخطاب الحداثوي العربي هذه الأيام، فهو يقوم على استعادة مفاهيم الديمقراطية والتقنية والحداثة والمجتمع المدني، إنها تجربة استعادة الغرب مرةً أخرى .

إنّ هذه التجربة الفكرية السورية في تصنيفها الذي قمنا به لا نستنفد فيه، فهناك ألوان كثيرة وأطياف متعددة في المشهد الفكري السوري اليوم .

المقال منشور في جريدة يكيتي العدد 298

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى