آراء

التيارات الفكرية في سوريا

أحمد برقاوي

ما أن يبدأ المرء بالحديث عن التيارات الفكرية حتى يجد نفسه واقعاً في مشكلة التصنيف، تصنيف المفكرين وفق تياراتٍ مما قد يلغي خصوصية المفكر ، ويحشره في خانةٍ لا سبيل إلى الإفلات منها، مع أنّ المفكر قد يجد نفسه في حالةٍ جديدة، قد تشكّل قطيعةً مع ماضيه، ولكن ضرورات الدراسة لا تسمح لنا، بأن نصعر خدّنا عن التصنيف؛ طالما الحديث يجري عن تياراتٍ فكرية، هذه ملاحظة أولى .

أما الملاحظة الثانية فهي تلك المتعلقة بخصوصية بلاد الشام التي من الصعب عليها أن تسمح بالتمييز الشديد بين ما ينتمي إلى سوريا الراهنة أو إلى الأردن أو إلى لبنان وفلسطين.

لاسيما وأنّ الجنسية التي يحملها المفكر لا تدلّ على الفضاء الجغرافي السياسي بدقة . فمطاع الصفدي السوري الذي عاش عمره الفكري كله تقريباً في لبنان، ونادراً ما يعرفه أحد بأنه سوري هو مفكر سوري الجنسية، وكذا الأمر مع قسطنطين زريق، رئيس جامعة دمشق في الخمسينات والذي مات حاملاً الجنسية اللبنانية، ومنيف الرزاز ابن حماة حامل الجنسية الأردنية .. إلخ . ولهذا الأمر أنُبه حين يجري تأريخ الفكر العربي السوري المعاصر.

وملاحظتي الأخيرة تتعلّق بالمسألة الفكرية السورية، فهي مرتبطة أشدّ الارتباط بمشكلة التقدم التاريخي العربي بعامةٍ، ونادراً ما نجد فكراً سورياً يفكّر سورياً ،أي بمشكلاتٍ سورية . ولقد تشكّل الوعي السوري النخبوي بوصفه امتداداً لفكر النهضة العربية في بلاد الشام مع اختلافٍ في الشروط الموضوعية _ التاريخية .

فإذا كانت الفكرة القومية والنـزعة الليبرالية الديمقراطية قد سادت لدى المفكرين الشوام نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين في شروط بقاء بلاد الشام والعراق جزءاً من الدولة العثمانية، والأمل بالاستقلال عن هذه الدولة، فإنّ هاتين الفكرتين قد انتشرتا في سوريا في شروط التجزئة للعرب عموماً، وتجزئة بلاد الشام على وجه الخصوص، وخضوعها للاستعمارين الفرنسي والبريطاني ونشوء الكيان العنصري الصهيوني في فلسطين . بل إنّ هناك تشابهاً شديداً بين العريسي والزهراوي من جهةٍ والحصري وعفلق من جهةٍ ثانية، ولكن في عالمين مختلفين .

أحاول في هذه الورقة أن أحدّد التيارات الفكرية الكلاسيكية في سوريا، وكما اتفق عليها أغلب المؤرخين ولكن انطلاقاً من مشكلة التقدم التاريخي الهاجس الأرأس للمفكر العربي السوري .

1_ التيار القومي أو الفلسفة القومية العريبة :

ليس التاريخ القومي العربي بجديدٍ على الحياة الفكرية السوية، بل قل إنّ سوريا التاريخية هي منبع الفكر القومي العربي، وتنحصر المشكلة الرئيسة في هذا الفكر في كيفية تجاوز حال التجزئة الراهنة إلى حال الأمة _ الدولة، التي تحقّق حريتها عبر وحدتها .

ولقد بحث المفكرون السوريون عن شروطٍ تكون الأمة عموماً ليدلّلوا عن واقعية وجود الأمة العربية، ولهذا استدعوا فلسفة الغرب القومية من أجل التأسيس النظري لوجود أمةٍ عربية واحدة، إذ ذاك ستكون التجزئة الحاصلة سلباً لحقيقتها .

ولقد رأى عفلق أنّ وجود الأمة ظاهرة تتمتع بالبداهة والوضوح، وهي التي تخلق الشعور بالانتماء الذي هو القومية، ولهذا فالرابطة القومية رابطة روحية؛ إنها حبٌ قبل كل شيء، إنها حقيقةٌ عقلية وفكرة مطلقة حية .

كما رأى عبد الله عبد الدايم : إنها أي القومية ليست رابطة تجمع العرب، بل روح الأمة العربية، إنها قديمة قدم الوجود العربي ذات، وخالدة خلود العرب من وجهة نظر منيف الرزاز .

واستناداً إلى فهم القومية العربية على أنها رابطة روحية فإنّ الانتقال إلى الأمة الواحدة لن يكون أكثر من بعثٍ روحي للمجتمع العربي .

والبعث القومي هو إعادة التاريخ إلى جادة الصواب، ذلك أنّ التاريخ يسعى نحو تأكيد رابطة القومية. وهذه الرابطة روحٌ تنتقل من جيلٍ إلى آخر، فيشعر كلّ جيلٍ بانتمائه إلى الأمة الواحدة، فهي بهذا المعنى خالدة، وخلودها جزء من ماهيتها، ولكن بما أنّ هذه الروح تغطّ النوم أحياناً فلن يتمّ إيقاظها إلا عن طريق أبنائها التي سرت فيهم روح الأمة .

هنا ستلعب الإرادة دوراً ريادياً في صناعة التاريخ. والحق أننا لا يمكن أن نفهم المبالغة في دور الإرادة الحرة في تكوين الدولة _ الأمة أو بعث الأمة _ لدى الفكر القومي دون أن نفهم إحساس المفكر القومي بصلابة الواقع وعناده .

أجل لقد صبغت الإرادة الفاعلة والقادرة على تكسير رأس التاريخ فكر كلّ القوميين العرب بدءاً من قسطنطين زريق وميشيل عفلق ومروراً بمنيف الرزاز وإسماعيل العرفي وجمال الأتاسي وانتهاءً بأنطون مقدسي وحافظ الجمالي اللذين سيـنـزعان بعد تجربتهما القومية إلى الليبرالية والديمقراطية والحداثة .

أي أنّ التاريخ هنا صار حقل فاعلية الإرادة الواعية بهدفها وبالتالي تراجعت إلى الخلف علاقة الواقع الموضوعي بالإرادة، أو قل لقد أهمل إلى حدٍّ كبير الطابع الموضوعي للتاريخ، وذلك لكي تكون الإرادة في أقصى درجات حريتها على الفعل .

ولهذا اصطبغ الوعي التاريخي القومي في سوريا،بالنـزعة الطوباوية والشوفونية معاً، وبالنـزعة الإيمانية بحتمية انتصار الإرادة المسلحة بالأيديولوجيا القومية.

وإلى جانب هذه النزعة القومية نشأت حركات أيديولوجية قومية سورية وكُردية،هي من حيث الجوهر لا تختلف عن النزعة القومية العربية .

وما هو لافت للنظر في الاتجاه القومي عموماً هو أنّ العامل الديني قد غاب بوصفه عنصراً مقوماً من عناصر القومية، بل تحوّل الإسلام كما المسيحية إلى عنصرٍ ثقافي عام، لأنّ الأصل في القومية أنها تجاوز الانتماء الديني والاختلاف الطائفي عبر الرابطة القومية.

ولهذا اتسمت الأيديولوجيا القومية_ أو التيار القومي _ بالعلمانية أي أنّ الدولة القومية ا المنشودة هي دولة علمانية .

وإذا ما تحدّثنا اليوم عن مصير الفكر القومي في سوريا،فإنّ هزيمته قد تمّت على يد السلطة التي حكمت باسمه،وازدادت شوفينية بعض الحركات القومية الكُردية.

والحق لا يمكن التفكير بالهم الوطني إلا بتجاوز العلمانية الضيقة، والنـزعة الشمولية، وتجاهل الاختلاف والبنية ذات القوة التي تحدّد فعل الإرادة .

الماركسية السورية :

لقد انتشرت الماركسية في أغلب بقاع الأرض ومنها سوريا في مرحلةٍ مبكرة، وتأسيس الحزب الشيوعي السوري عام 1924 م، والذي كان يضمّ شيوعيي سوريا ولبنان، ثم الحزب الشيوعي السوري_ اللبناني 1943 ثم الحزب الشيوعي السوري في أوائل الخمسينات .

كان الحزب الشيوعي السوري هو المكان الذي نمت فيه النخبة الماركسية، خالد بكداش، إلياس مرقص، ورياض الترك.

ولاشكّ أنّ التيار الماركسي السوري_ بمعزلٍ عن التطورات التي حصلت فيه_ قد استخدم كلّ مفاهيم المعجم الشيوعي : الصراع الطبقي، دكتاتورية البروليتاريا، حتمية الاشتراكية، أزمة الامبريالية العالمية، التحرر العالمي، وحدة قوى الثورة العالمية… إلخ .

غير أن تعين الماركسية سورياً أو عربياً سورياً لم يتحقّق إلا على يد إلياس مرقص تقريباً.

قلنا إنّ الماركسية الكلاسيكية قد استعارت المفاهيم الماركسية الأيديولوجية كلها تقريباً ولهذا لم تستطع أن تترك بصماتٍ ظاهرة على الماركسية كما هو الحال في الغرب.

ولهذا جاء هاجسها لينينياً، وطرحت السؤال: كيف يمكن نقل المجتمع السوري إلى مجتمعٍ لا طبقي اشتراكي ؟ .

فرُبطت الاشتراكية بكفاح الطبقة العاملة قائدة الكفاح والمتحالفة على الطبقة الفلاحية، والمدعومة _ أي هذا الكفاح_ بالمنظومة الاشتراكية وعلى رأسها الاتحاد السوفيتي .

وفي وعيٍ كهذا سادت النزعة الميكانيكية والإرادية معاً، أما النـزعة الميكانيكية فقد تمثّلت بالاعتقاد بأنّ الطبقة العاملة العربية هي الطبقة الثورية القادرة عبر تنظيمها الطليعي _الحزب _قادرة على أن تحقّق الهدف الأكبر _ الاشتراكية . هذا الاعتقاد هو نقل ميكانيكي للتجربة الروسية إلى الحياة السورية، بالمقابل يكفي وجود الحزب الطليعي لكي يكسر رأس التاريخ وينقل مجتمعاً ما قبل رأسمالي إلى مجتمعٍ اشتراكي .

وحين حكمت بعض الأحزاب التحررية في بعض البلدان العربية وخاصةً سوريا، استعار التيار الماركسي _الشيوعي مفهوم التطور اللارأسمالي من الفكر السوفييتي .

أما موقف التيار الماركسي من الديمقراطية فهو موقف مَن يرى فيها مقدمة وحالةً يمكن معها تنظيم الحزب ولكن لابدّ من تجاوزها بالانتقال إلى الدولة الاشتراكية، حيث الديمقراطية الشعبية .

إنّ التقدم التاريخي بهذا المعنى : هو الانتقال إلى مجتمعٍ اشتراكي يقوم بدوره بتطوير القوى المنتجة .

لقد وقف إلياس مرقص ضد هذه النـزعة التخطيطية للماركسية السورية والعربية عموماً، فراح ينقد الستالينية واستبدادها والحالات الخمس لتطور البشرية، مؤكّداً مفهوم الممارسة.

لقد أنسن مرقص الماركسية بمعنى أنه أكّد مفهوم الإنسان، ولهذا أكّد مرقص:« أنّ ما يرمي مفهوم الإنسان عليه، كلمة الإنسان والكلمات الشقيقة أو المشتقة أناس، بشر، إنساني..إلخ.

وفي رأينا لا يوجد خيار ثالث : إما أن نقول إنسان بشر إنساني، وفي هذه الحال علينا أن نقبض على مفهوم الإنسان ، وهذا ما فعله ماركس، وإما أن نرفض مفهوم الإنسان أن نرميه وفي هذه الحال علينا أن نستغني عن الكلمة المذكورة وأخواتها .

براكسيس ولوغوس الممارسة، عمل ومنطق، شغل ووعي، هذا هو الإنسان، وهذه هي فلسفتنا المفترقة المثالية وعن المادية السابقة » .

يمكن القول إنّ مرقص قد دافع عن الماركسية الإنسانية . حيث الإنسان مركز العالم، الإنسان بكلّ تعيناته في الحياة .

والحق أنّ الخلاف قد احتدم منذ الأربعينات بين التيار القومي والتيار الماركسي_الشيوعي بخاصة، وصار لذا على التيار القومي أن يميّز اشتراكيته عن الشيوعية هذا ما قام به ميشيل عفلق في «في سبيل البعث » حيث دافع عن الأمة والقومية مقابل الأممية، وعن الملكية الخاصة مقابل إزالتها، وعن الإنسان الروحي مقابل المادية إلخ .

بالمقابل : فقد اعتقد التيار الماركسي أنّ التيار القومي هو تعبير عن البرجوازية الصغيرة التي تقف موقفاً وسطاً ولا تستطيع أن تقود عملية التغير الثوري.

يتبع في العدد القادم

 

المقال منشور في جريدة يكيتي العدد 297

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى