الثقافة وتأريخ الهيمنة الثقافية.. مقدمات ظهور الهيمنة والاستشراق (القسم الثاني)
وليد حاج عبد القادر / دبي
في بداية هذا القسم يتوجّب التنويه بأنه ولمجرد الخوض الفعلي في هذا العرض ومقدماته ، لابدّ من التركيز وبقوةٍ كأسسٍ من جهة ، وكتقاطعٍ من جهة أخرى مع خصوصيات شعوب منطقتنا ومدى انعكاس ذلك في تقاطعات كلٍّ من غرامشي وبيير بورديو وصولاً إلى ادوارد سعيد، إنْ في المفاهيم التي يتمّ طرحها وجمعها ضمن رؤيته – سعيد – الاستشراقية ، هؤلاء الثلاثة وكإطارٍ منمذجٍ لن ينسوننا مطلقاً قامات أمثال فوكوياما وغيره ، وبالمختصر ، فقد كان للخلاف الحاد بين غرامشي وبورديو دور حيوي في بلورة إطارٍ لنقاشٍ جدالي واسع بينهما ، حيث ظهر بورديو كمدافعٍ ومنظّرٍ عن السلطة الرمزية ، على نقيض غرامشي كمتبنٍّ للهيمنة ، ورغم حديّة النقاش لم يندفعا إلى القطعية أو القطيعة ، بل ساهم نقاشهما في بروز نقطةٍ تشاركية هامة بينهما ، خاصةً عند بورديو في مفهوم السلطة الثقافية حيث استخدم مفاهيم محدّدة لغرامشي في دعم نظريته السياسية ، وإن لم يفته السخرية من بعض أفكاره – غرامشي – خاصةً مفهوم – المثقف العضوي – ، وقبل استعراض قضايا الخلاف بينهما لابدّ لنا وبعجالةٍ التعريف بالمسلّمات الأساس لكليهما : بخصوص غرامشي سنلاحظ بأنّ الهيمنة كمفهومٍ تتلخّص عنده في ( .. شكل من أشكال السيطرة المبنية على الجمع بين القوة والقبول .. ) ولكنها مرهونة بمبدأ التوازن وبأسلوبٍ متفاوت وبشرط أساسي ! ألّا تكون الغلبة لفرط القوة على حساب القبول ، بل على أن تكون القوة مستندة بقبول الأغلبية ، وعليه يتوجّب وبالضرورة التمييز وبدقةٍ بين مفهومَي الهيمنة والدكتاتورية وكذلك عن الاستبداد ، وذلك كنماذج لأنظمةٍ يسود فيها الإكراه تعسفاً ومن دون معايير تنظيمية ، فتتنظم الهيمنة داخل المجتمع المدني ولكنها تشمل الدولة أيضاً ( ..
فالدولة هي مجموع الأنشطة العملية والنظرية التي من خلالها لا تقوم الطبقة الحاكمة بتبرير هيمنتها والحفاظ عليها فقط، ولكنها تنجح في الحصول على الإجماع الفعلي من المحكومين .. ) . إذن وكتلخيصٍ لمفهوم غرامشي للهيمنة ، سنلاحظ بأنها تستند على مبدأ قبولٍ يفترض حالة تشاركية واعية وطوعية للمحكومين في الهيمنة عليهم .
أما بورديو ! فنراه يستخدم مقابل ذلك أحياناً كلمة «قبول» في وصف السلطة الرمزية ، ولكنه يرى نفسه معنيّاً بالعمق النفسي أكثر من الهيمنة ، فحسب – بورديو – نرى بأنّ السلطة الرمزية لا تستند على القوة المادية ولا حتى الشرعية ، فهما عديمتا الفائدة ( .. لا تحتاج الدولة بالضرورة إلى إعطاء الأوامر وممارسة الإكراه المادي أو الإلزام التأديبي لإنتاج عالمٍ اجتماعي منظّم ؟ طالما أنها قادرة على إنتاج بُنى معرفية إدماجية تكون متوافقة مع البُنى الواقعية، وذلك لضمان الخضوع الكلي للنظام القائم ) ، بينما يبدو الأمر وفق منظور غرامشي ( .. يتحدّث عن قبولٍ واعٍٍ وعقلاني للهيمنة .. و .. يطوّر مفهومَ الحسّ المشترك الذي يشير أساساً إلى «الحسّ السليم» – النشاط العملي الذي يمكن أن يؤدّي إلى فهمٍ أصيل – بالإضافة إلى إرث الحكمة الشعبية والإيديولوجيات التي تشرّبنا منها حيث أنّ ( .. الإنسان النشط بين الجماهير هو مَن يقوم بنشاطٍ عملي بينها، وإنْ لم يكن لديه وعي نظري واضح بهذا النشاط، والذي هو فهم للعالم من حيث أنه يغيّره. ويمكن لوعيه النظري أن يتعارض تاريخياً مع نشاطه، ويمكن القول إنّ له وعيان نظريان ( أو وعي واحد متناقض ) ، أحدهما مُضمَر في نشاطه، وهو في الحقيقة ما يوحّده مع كلّ زملائه الذين يعملون معه في عملية التغيير العملي للواقع، والآخر صريح بشكلّ ظاهر أو لفظي، ورثه من الماضي وتشرّبه دون أن ينقده ومع ذلك، فإنّ هذا المفهوم «اللفظي» لا يخلو من العواقب ) . وهنا ينحصر جوهر الخلافات الأساسية بين غرامشي وبورديو : ( .. الأول يفهم النشاط العملي للتحوّل الجماعي للعالم كأساسٍ للحسّ السليم وكطريقٍ من المحتمل أن يؤدّي إلى الوعي الطبقي ) ، والثاني ( يتصوّر النشاط العملي بطريقةٍ معاكسة – حيث لا يوجد وعي طبقي بل قبول العالم ) . وبعد هذا الإختزال لمفهومي غرامشي وبورديو وكتمهيدٍ واسع لتقاطعاتٍ كثيرة لكليهما – ومن ثم – التشابكات – مع مفكرين آخرين ، ولكن وكمدخلٍ أساس لابدّ وكضرورةٍ بحثية تهمنا كشعبٍ كُردي وكُردستان من التركيز ولو بإيجازٍ على فكرة الاستشراق والوقوف عندها ملياً ، خاصةً في تقاطعات إدوارد سعيد وما ذهب إليها ، وذلك كهدفٍ لفهمٍ أشمل في أبعاد وتفسير الغزو – الهيمنة – للفضاء الثقافي بآفاق واسعة ومسمّيات بتعاريف وشروحات متعدّدة ، وهنا – كمدخلٍ بدئي – لابدّ لنا من التركيز لما كان لغرامشي وبشكلٍ أوسع من تأثيراتٍ وبعبارةٍ ادقّ، ممهْدات ترافقت – مع اجتهادات إدوارد سعيد منذ البدايات حيث سنلاحظ بأنّ مفهوم (الهيمنة) الوارد في مؤلّفات (سعيد) وبخاصية (الاستشراق) قد أخذها عن (غرامشي) الأمر الذي ركّز عليه في التمييز بين تصوّرين عن المجتمع الغربي من خلال دراساته الاجتماعية ، حيث استند على ذات رؤية (غرامشي) في انقسام المجتمع إلى قسمين : الأول خارج نطاق الدولة ومدني تشكّل من مؤسسات معنية بالعمل المجتمعي، مثل النقابات والعائلات والمدارس وممارساته عقلانية غير قسرية. والثاني المجتمع السياسي وهو تشكيل مؤسساتي تشرف عليه الدولة مثل أجهزة المجتمع ويلعب دوراً مهماً في السيطرة المباشرة على المجتمع الأول من خلال ما يراه (غرامشي) بأسلوب ( .. الهيمنة – التسلط ) ، والتأثير في الأفكار لصياغة صورة الدولة على أفرادها في الداخل ونقل هذه الصورة إلى الخارج أيضاً، ومفهوم ( الهيمنة – التسلْط ) هذه ومن ضمنه التسلّط / الهيمنة الثقافية ، التي تمنح الاستشراق متانته وقوته ، الأمر الذي منح الفكر الغربي الهيمنة داخل المجتمع الغربي وخارجه ، هذا الأمر الذي سيدفعنا لإعادة تعريف مفهوم الهيمنة ال ( غرامشية ) بأبعادها الاجتماعية والسياسية والأخلاقية التي مورست – تمارس ضدّ الآخر ، سواءً من خلال التفوْق الذي تحقّقه الطبقة المتحكْمة في قيادة المجتمع وذلك من خلال مسارين مختلفين :
(السيطرة ) أو (القسر) و ( القيادة الفكرية والأخلاق ) ويُعتبر هذا التلاقح بين السيطرة والهيمنة والتحكّم الاجتماعي ، والذي بدوره ينقسم إلى شكلين أساسيين آخذين بالإعتبار جانب تأثيره على السلوك وعلى فرضية الاختيار الخارجي تحت بند الثواب والعقاب ، إنْ كمؤثْر داخلي اًو حتى كصياغة للقناعات الشخصية وكنسخة مطابقة للعبادات السائدة ، حيث ينطلق مثل هذا التحكم الداخلي من الهيمنة . وباختصارٍ يُلاحظ بأنّ سعيد يرى في مفهوم الهيمنة عند (غرامشي) من خلال التاريخ الاجتماعي المقارن والواقع الذي يعيشه – وكمثال – التفاوت المناطقي اقتصادياً ، مما يخلق حالات التمايز والتي تتراكم لتؤدْي إلى تشكْل أنواع الهيمنة في الاستناد ومن جديد على أرضية الهيمنة الاقتصادية ، وبالتالي تأثير ذلك على الطبقات الاجتماعية في المناطق التي يمكن تسميتها تجاوزاً بالضعيفة – الفقيرة ، والتي كنتاجٍ لها ستنتج تشكيلات ثقافية متمايزة ، الامر الذي قدّم ( غرامشي ) وفقها انموذجاً جغرافياً ظهر فيه التمايز الثقافي الذي ربطه وكانعكاسٍ لذلك من خلال تنظيمّ ثقافي يدعو فيه إلى عدم تمييز – الأقاليم الفقيرة – كأقاليم متخلّفة – ، هذا الأمر الذي حاول سعيد أن يوظّف من خلاله مفهوم الهيمنة الثقافية والجغرافية في فهم الخطاب الكولونيالي الذي طُبّق على جغرافيا المستعمرات ، كما سنرى لاحقاً .
يتبع
* المراجع غوغل ومقالات صحفية متعدّدة
المقال منشور في جريدة يكيتي العدد “281”