الحرب العالمية الباردة الثانية
دوران ملكي
تمحورت الحرب العالمية الباردة الأولى بين محورين رئيسيين؛ هما المحور الرأسمالي بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية والمعسكر الإشتراكي بزعامة الإتحاد السوفيتي السابق، وأدّى إلى انهيار الإتحاد السوفيتي ومنظومة الدول الإشتراكية وجدار برلين ،وبذلك تنفّس العالم الرأسمالي الصعداء ، إلا أّن ذلك لم يدم طويلاً ، إذ بدأت عيوب النظام الرأسمالي بالظهور وعدم صموده أمام اقتصاد السوق ، مما أدّى إلى ظهور التناقضات بين الدول المتحالفة في المجالات الإقتصادية؛ وبدأت تتحوّل الأحلاف العسكرية، التي رافقت الحرب الباردة الأولى ، الى كيانات هشة ، وأصبحت عالةً على دولها، ر
تنامى دور الصين في المحيطين الهادي والهندي عسكرياً لحماية مصالحها الاقتصادية في إحياء طريق الحرير ؛ والذي ربط 60دولة بالاقتصاد الصيني عن طريق منح قروض مالية طويلة الأجل ، مما أدّى إلى تبنّي استراتيجية جديدة من قبل الولايات المتحدة الأمريكية والبحث عن حلفاء جدد أكثر ثقةً من الحلفاء القديمين، والذين تتناقض مصالحهم الاقتصادية مع مصالح أمريكا ، وبرز ذلك بشكلٍ واضح إزاء الإتفاق النووي مع إيران.
إنّ خروج بريطانيا من الاتحاد الأوربي وتحمّلها تبعات البريكست لهو دليلٌ واضح على بناء حلفٍ جديد، عماده الأساسي الدول الناطقة بالإنكليزية ،وبدأت بالفعل كخطوةٍ أولى بين الدول الثلاثة الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وأستراليا ،والتي تنحدر من أصلٍ واحد ؛ ليتبعها الهند واليابان حيث أعلن كمرحلة أولى التحالف الثلاثي المسمّى(أوكوس)،وهو تحالف استراتيجي سيلزم الدول الثلاث إلى أجيال وسيتبعها تحالف رباعي بين أمريكا واليابان والهند وأستراليا تحت اسم (كواد)الحوار الرباعي الأمني، وستسمح القمة بتعزيز الروابط وتعميق التعاون على صعيد مواجهة وباء كورونا والتغيير المناخي، ويلتزم الشركاء الأربعة كذلك بجعل منطقة المحيط الهندي والهادي مفتوحة وحرة، وهي عبارة دبلوماسية تعتمدها واشنطن للتنديد بالتطلعات الإقليمية الصينية.
نفت الدول الثلاث على أنّ تحالف (اوكوس) هو بداية لحربٍ جديدة باردة مع الصين ، ولكن الصينين يصرّون على أنها فصلٌ من فصول الحرب الباردة، وإنتشاراً للسلاح النووي، والخقيقة تشير جميع الدلائل إلى امتلاك أستراليا بموجب هذا الإتفاق غواصاتٍ تعمل بالطاقة النووية وحصولها على التكنولوجيا النووية، ولكن بإسلوب أخر ،ولأنها تقنية أمريكية متطورة مُنحت لثاني دولة بعد بريطانيا أي بموجبها تتحوّل أستراليا إلى دولة نووية وإن لم تحصل على التقنية الصناعية.
وتُعتبر ولادة هذا التحالف بداية لحربٍ عالمية باردة ثانية، وسيتمّ تأسيس شراكات وتحالفات جديدة تماشياً مع متطلبات المرحلة، وستكون بالدرجة الأولى حرب الطرق والممرات المائية ،تأتي كردة فعل مباشر على دخول الصين بقوة إلى المحيطين الهندي والهادي ، عن طريق ربطهما بطريق بري يربط الصين مع ميناء كوادر على المحيط الهندي، وربطها مع الخليج بواسطة موانيء متعددة في العراق والكويت وإيران ، مما يستدعي مواجهة طموح الصين الذي يريد أن يربط القارات الثلاثة (أوربا-أفريقيا-أسيا)والظروف مهيأة لذلك.
إنّ أغلب الدول الأسيوية والأوربية وحتى الأفريقية تحاول بناء شراكات اقتصادية مع الصين، وتداعيات الحرب الباردة ستكون كبيرة على المستوى العالمي ،حيث سيتغيّر شكل الأحلاف العسكرية وحتى مقاييس الأصدقاء والأعداء،
فإنشاء الحلف الجديد على الأصل الواحد واللغة الواحدة هي إحياء للقومية من جديد في إطارها العريض وإمكانية تشكيل رابطة على غرار دول الكومنولث ،وسيكون من أولى تداعياته تعميق الخلاف الأمريكي الأوربي ، وظهر جلياً كيف تمّت التضحية بالحليف الفرنسي وإلغاء صفقة القرن بين مجموعة نافال الفرنسية وأستراليا لبناء أسطولٍ من الغوّاصات التقليدية التي تعمل بالديزل والكهرباء واستبدالها بغواصاتٍ تعمل بالطاقة النووية بإستخدام التكنولوجيا الأمريكية والبريطانية، في شراكةٍ أمنية واقتصادية ثلاثية، ووصفت باريس إلغاء الصفقة بأنه طعنة في الظهر على لسان وزير خرجيتها جان أيف لودريان وأنه قد حصل كذب وازدواجية وتقويض كبير للثقة وازدراء والأمور بيننا ليست على ما يرام ، ومن بعد تصريحه تمّ سحب سفيري فرنسا من واشنطن وأستراليا بشكلٍ مؤقت كردّ فعلٍ على ما جرى.
إنّ كثيراً من دول العالم وفي مقدمتها الاتحاد الأوربي لم تعلن عن امتعاضها من دخول الصين معترك الخياة الاقتصادية والعسكرية العالمية، ومنافستها بقوة على زعامة العالم، كما أبدته أمريكا ،وخاصةً بعد استحواذ الصين على نسبة 66% من ميناء بيرايوس قرب العاصمة اليونانية، والذي يعدّ أكبر موانيء اليونان ، وكذلك عرضت إيطاليا جميع موانئها على الصين كحل لمشاكلها الإقتصادية ،وكذلك إسرائيل حسب بعض المصادر بأنها أجّرت ميناء حيفا للصين لمدة خمسة وعشرين عاماً، وعرضت أغلب دول الخليج موانئها على الصين مثل الكويت والعراق حيث الأعمال جارية على قدم وساق لتهيئة ميناء الفاو العراقي لاستقبال خمسين باخرة في الساعة ،وبنت الكويت مدن بأكملها على شكل موانىء عملاقة، بالإضافة إلى ميناء كوادر الباكستانية الذي استأجرته الصين لمدة خمسين عاماً، ووضعت قوة عسكرية ضخمة لحماية موانئها ،كذلك المملكة العربية السعودية عرضت جزرها البحرية في البحر الأحمر.
ستضطرّ أوربا إلى البحث عن بدائل للاتفاقية الأمنية مع الولايات المتحدة الأمريكية، وأغلب الظنّ بأنّ الأنظار تتجه نحو بناء جيش أوربي موحد ،وهذا يعني دخول ألمانيا معترك الحياة العسكرية العالمية من جديد، ويُعتقد أنّ مصير الحلف الأطلسي آيل إلى الزوال
ومن تداعيات الإتفاقية الجديدة ستتمّ مواجهة جميع الدول التي تسهّل تمرير المشروع الصيني وبشتى الوسائل وخاصةً في شرق أسيا ،وكان من أولى بوادره الانسحاب المفاجيء للولايات المتحدة الأمريكية من أفغانستان وتسليمها لطالبان ،حتى دون استشارة دول الحلف الأطلسي، وتحويل الساحة الأفغانية المحاذية للصين وايران وباكستان إلى مرتعٍ للإرهاب ويتمّ الآن إعادة تموضع للقوات الأمريكية ،وسيتمّ تشديد الرقابة على حلفاء الصين وضربهم اقتصادياً ، وستجبر حلفاءها في منطقة الشرق الأوسط والخليج إلى وقف التعامل مع المشروع الصيني ،وستقطع جميع الطرق البرية والبحرية التي ستسلكها الصين لربط القارات الثلاثة ،وما يجري من حصار اقتصادي على أيران جراء مشروعها النووي وإصرار الإدارة الأمريكية على بقاء القوات الأمريكية في العراق رغم الدعوات المتكررة من الحكومة العراقية بمغادرتها ،وكذلك تمركزها القوي في كُردستان العراق والتأكيد على بقاء القوات في شرق الفرات وتكليف موظف رفيع المستوى لإدارة ملف التفاوض بين الأطراف الكُردية في كُردستان سوريا ، وهذا يدلّ على الإستراتيجية طويلة الأمد في المنطقة وكذلك السعي الحثيث للقوى السنية في العراق للمشاركة بقوة في الانتخابات العراقية في اكتوبر المقبل كسابقة فريدة ، بعد أن كانت مشتّتة بين الكتل الشيعية وتهيئ الأرضية لإعلان الإقليم السني ، أسوةً بإقليم كُردستان ،وبمباركةٍ عربية وأمريكية كمفصل في وجه الطموح الصيني والأيراني للوصول الى البحر المتوسط براً.
ستحاول الولايات المتحدة الأمريكية تحييد روسيا وفصلها عن المحور الصيني، وخاصةً أنّ هناك خلافات تاريخية عميقة بين الصين وروسيا عن طريق غضّ النظر عن الدور الروسي في سوريا وشرق البحر المتوسط وضمّها لشبه جزيرة القرم ، بشرط أن تلجأ إلى تقويض الدور الأيراني والتركي في سوريا ولبنان .
إنّ إعادة تموضع القوات الأمريكية وانشاء تحالفات جديدة وظهور بوادر أزمة عالمية جديدة وصراع مستدام طويل الأجل سيفرز معطيات جديدة علينا دراستها ، وخاصةً في كُردستان سوريا والعراق ، إذ لا توجد أي بوادر للانسحاب الأمريكي ، بل سيتم تعزيزها في قادم الأيام ووضع ترتيبات جديدة للمنطقة ، علينا ككُرد الاستفادة منها عن طريق إبداء المرونة والعقلانية ووضع المصلحة العليا للشعب الكُردي فوق جميع المصالح ،واللجوء إلى الخيار الدبلوماسي والخروج من القوقعة المحلية لأنّ كُردستان أصبحت في طريق الممرات الدولية وتتجه إليه الأنظار