الحلقة الثانية: لمحات من أفكار البارزاني
محمد زكي أوسي
في هذه الحلقة نتناول نظرات البارزاني إلى الحياة, ومن كلّ جوانبها مشفوعةً بأمثلةٍ من الواقع كلما تيسّر ذلك، معلومٌ أنّ البارزاني الخالد نشأ في أسرةٍ دينية، اهتمّت كذلك بالأوضاع الاقتصادية والاجتماعية لسكان منطقة بارزان وتوابعها, وأقاموا في تلك المنطقة نوعاً خاصاً من العلاقات بين المواطنين قائمةً على أساس امتلاك كلّ أسرةٍ لقطعة أرض زراعية، بالإضافة إلى نظامٍ محكم لتنظيم شؤون المعاملات والقضايا، والتهديد لكلّ مَن تسوّل له نفسه ممارسة التجاوز على الآخرين, هذا أدّى إلى قيام مجتمعٍ تسوده روح التعاون والتعاطف الممزوج بالولاء والطاعة للزعامات دينيةً كانت أم اجتماعية، بعيداً نسبياً عن الاستغلال والقهر.
كان البارزاني الخالد بسبب نشأته هذه مؤمناً بالله وبالقضاء والقدر والأجل المكتوب، ونظراً لرسوخ هذا الإيمان في قلبه وعقله كان شجاعاً مقداماً لا يخشى الموت أبداً, وصادف أكثر من مرةٍ وقوع هجمات وغارات جوية على مواقع مكشوفة، وهذا مثير للخوف والقلق, ولكنه كان يواصل أحاديثه الاعتيادية وتوجيهاته إلى أنصاره ومقاتليه دون أي تكليف أو ارتباك, وكانت هذه الإرادة الفولاذية مبعث صمود وتخندق مقاتليه الشجعان الذين لم يكن أحدهم يتزحزح من موقعه، وأمامهم العدو يندحر خائباً مذعوراً.
كان البارزاني الخالد يعشق رياضة المشي ويمارسها جلّ أوقاته ويكثر من مطالعة الكتب المختلفة وخاصةً الدينية منها ، وفي المقدمة القرآن الكريم، وسُئِلَ عن سبب ذلك فقال: إنه كلام الله، أما الكتب الأخرى فهي من وضع البشر، وكان يقف بكلّ قوته ضد الظلم والظالمين ، ويعمل على تحقيق العدالة والمساواة على الصعيدين الفردي والاجتماعي.
في عام 1964م كان البارزاني في سنكسر، وتقدّم إليه أحد الفلاحين الفقراء بشكوى ضد أحد أغوات البشدر، كان ضربه ضرباً مبرحاً, فأرسل البارزاني أحد حرّاسه (محمد عيسى) لاستحضار الأغا, فلما حضر, استجوبه البارزاني ولما بدا عاجزاً عن الإجابة وتأكّد ظلمه للفلاح ، أحضر الفلاح وأعطاه نفس المسحاة التي ضربه بها الأغا طالباً منه أخذ حقه وضرب الأغا بنفس الطريقة والدرجة التي ضربه بها إحقاقاً للحق.
وكان يتعامل على صعيد الجريمة وخاصةً القتل العمد بمنتهى الصرامة والحزم, موقعاً القصاص العادل بالمجرمين والقتلة آمراً بإنزال عقوبة الإعدام بالقاتل؛ حتى يُدفن مع القتيل، وبذلك أصبحت مثل هذه الجرائم نادرة الحدوث في المناطق المحررة، فكان الأمن والأمان.
أما على الصعيد الاجتماعي فكان ضد الاستغلال وكلّ أشكال الظلم الاجتماعي, دون أن يؤيّد حرب الطبقات, بل يؤمن بضرورة تقليص الفوارق الطبقية ما أمكن, ويؤيّد دائماً الدفاع عن حقوق العمال وتوزيع الأراضي الزراعية على الفلاحين ؛ لتأمين مستلزمات معقولة للحياة لهم, ملتزماً في هذا المجال وناصحاً بالاعتدال وعدم التطرف في ذلك وعدم الانجرار إلى الدعوات الرامية إلى اطلاق يد الفلاحين في الريف بصورةٍ غير مدروسة ؛ لأنّ من نتائج هذه الدعوات تشجيع بعض مراتب الفلاحين للقيام بأعمال طائشة لا تقلّ قبحاً عن تصرفات الإقطاع ضدهم، وتؤدّي للإساءة إلى سمعة الفلاحين.
في المجال الإداري كان البارزاني مثالاً للإداري الكفوء القادر على اتخاذ القرارات الصائبة وسرعة البتّ فيها وتحديد الأولوية في التطبيق.
كان يجتمع بشكلٍ دوري مع رفاق دربه وكلٌّ منهم يحمل في جعبته جملة من النقاط والقضايا لتدارسها وتبادل الرأي حولها, كان يستمع إلى الآراء كلها سلباً أو إيجاباً بالتفصيل, ثم يصدر القرار أو التوجيه اللازم حولها ، ويتمّ التنفيذ في ضوء ذلك دون ابطاء آخذاً بالحكمة القائلة (لا تؤجّل عمل اليوم إلى الغد).
لم يكن البارزاني الخالد مع العقلية العقائدية السايكوباتية (الجامدة) بل كان للواقع وخصوصيته أعمق الأثر في فلسفته ووجهة نظره في الحياة, ولم تكن تعجبه النظرات والمصطلحات المستوردة, فكلما دعت الحاجة في مطبوعات الحزب وإعلامه إلى ضرورة تمتع الشعب الكُردي بحقوقه القومية المشروعة أسوةً بالدول المتعددة القوميات وخاصةً الاتحاد السوفييتي كأفضل مثالٍ آخذاً بالعبارة القائلة (على غرار ما هو متبع في الاتحاد السوفييتي) كان يرشد بضرورة ترك مثل هذا الكلام ؛ لأنّ القوميات في الاتحاد السوفييتي لم تكن تمارس حقوقها القومية كاملةً، حسب رأيه، وما حدث لشعوب هذا الاتحاد من تحلل ورغبة في الاستقلال يؤكّد صحة ما ذهب إليه البارزاني, رغم التقدير والاحترام الذي كان يضمره لهم.
كان البارزاني الخالد في حياته الخاصة شديد الميل إلى التواضع الجمّ في مأكله وملبسه ومسكنه ووسائل تنقله من مكانٍ إلى آخر, وانتقل إلى جوار ربه دون ترك ميراثٍ من القصور والأطيان أو أية ممتلكات أخرى, رغم أنّ ظروفه كانت تسمح له بحيازة الكثير منها لو أراد ذلك.
سأل أحد الصحفيين المصريين البارزاني, بعد إعلان اتفاق 11- آذار – 1970م عن الأساس الفلسفي للثورة الكُردية وعن فلسفته في الحياة, فأجابه: إننا مع الحق ضد الباطل ، ومع الخير ضد الشر. ولو نظرنا إلى الفلسفة بأنها سعي الإنسان للوصول إلى حقائق الحياة لوجدنا البارزاني رغم بساطة إجابته كان مصيباً تماماً.
كان البارزاني ينظر بعين الاشمئزاز والكراهية إلى الانتهازيين والمنافقين, وكلما ورد ذكر هؤلاء خلال الاجتماعات واللقاءات الخاصة والعامة يستشهد بقوله تعالى: (وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ, اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ).
على الرغم من أنّ حياة البارزاني كانت مشحونةً بالحروب والمتاعب والمشاكل المعقدة, إلا أنه كان على الدوام ضد القتال وسفك الدماء مفضّلاً التسامح والسلام, ولم يكن يقاتل إلا مضطراً دفاعاً عن النفس وعن حق شعبه في الحياة الحرة الكريمة ، وكان يستجيب لكلّ رغبةٍ حكومية في إحلال السلام وتحقيق المصلحة العامة, وثمّة سؤالٍ يطرح نفسه وهو :إذا كان البارزاني على هذا القدر الكبير من الحنكة والموهبة والاستراتيجية السياسية والعسكرية وغيرها, لماذا كانت انتكاسة اتفاقية الجزائر عام 1975م ؟
إنّ لذلك أسباباً عديدة ذاتية وموضوعية, وكلّ ما نستطيع قوله: إنّ الإنسان مهما أوتي من قوة الإدراك والبصيرة وبُعد النظر ؛ فلابدّ أن تفرض الأحداث يوماً عليه الخطأ وعدم التقدير الدقيق لسير الأحداث وتفاعلاتها, خاصةً إذا كانت القوة الدافعة لهذه الأحداث هي الدول الكبرى وتيارات السياسة الدولية التي تفرض نفسها أحياناً ويجري خلالها تآمر الكبار على مصالح الشعوب وسحق آمالها وتطلعاتها بقسوة, وقد قيل: (من لا يعمل لا يخطئ والكمال لله وحده).
المقال منشور في جريدة يكيتي العدد 303