الحلول الترقيعية لا تُعالج الأزمات الكبرى المتدحرجة
عبد الباسط سيدا
ما تتسم به الأزمات التي تشهدها غالبية الدول العربية أنّها متدحرجة، تسير من سيئ إلى أسوأ، وهي أزماتٌ تبدو مسدودة الآفاق، خصوصا في ظروف عدم وجود قوى وطنية متماسكة، مؤمنة بضرورة استعادة وحدة نسيج المجتمع الوطني الذي لا يمكن من دونه بناء دولة وطنية قوية، تطمئن سائر مواطنيها على قاعدة احترام الخصوصيات والهويات الفرعية ضمن إطار وطني عام، يحقّق التشارك العادل في الإدارة والموارد. بل على النقيض من ذلك، ترى القوى المهيمنة حالياً في المساحات الخاصة بها داخل مختلف تلك الدول في واقع الأزمة والتفكّك أرضية خصبة لمشاريعها الفرعية التي قد تتوافق، أو تسوّق على أنّها تتوافق، مع أهواء طائفية أو قومية أو جهوية وقبلية.
وتعود اسباب هذه الأزمات، في جانب كبير منها، إلى إخفاق الأنظمة العسكرية التي تحكّمت بالجمهوريات العربية عقودا في تحقيق أي نهضة متوازنة على المستوى الوطني، نهضة كان من شأنها الحفاظ على الاستقرار المجتمعي، وإتاحة المجال أمام الجميع للاستفادة العادلة من الإمكانات والموارد الموجودة، وذلك عوضاً عن أن يلتهمها الفاسدون داخل منظومة الحكم وشركاؤهم. وما زاد الوضع تعقيداّ وقتامة دخول القوى الإقليمية على الخط، وهي القوى التي استغلت واقع الانهيارات الداخلية في جملة من الدول العربية، بل أسهمت في تلك الانهيارات، وأصبحت جزءاً من الصراعات الداخلية ضمن تلك الدول في سياق عقلية الاستقواء التي تبنّتها القوى المتخاصمة ضمن كل دولةٍ بقصد الحصول على ما ترى فيه حقها المسلوب، أو فرصتها التاريخية التي لا تفوّت، بغض النظر عن حجم (وطبيعة) التنازلات التي تقدّمها للقوى الإقليمية، وحتى الدولية.
ومن الواضح أنّ الانهيارات الحاصلة لا تقتصر على الدول التي تتسم بالتنوع الديني والمذهبي والقومي، مثل سورية والعراق ولبنان، وربما اليمن إلى حد ما؛ بل تشمل الدول المتجانسة أيضاً، إذا صحّ استخدام هذا التعبير. ويُشار هنا إلى ليبيا وتونس والسودان، مع الأخذ بالاعتبار بعض الخصوصيات الفرعية، فالخلاف في ليبيا، على الرغم من أنه قد اتخذ طابعاً جهوياً بين الشرق والغرب، وربما قبلياً، بينما هو خلاف بين قوى تريد الاستئثار والتحكم عبر الورقة المناطقية أو القبلية. أما في السودان فقد ظهر الوضع في مظهر الصراع بين القوى العسكرية والمدنية؛ في حين أنّ الأمور في تونس ما زالت متداخلة ضبابية، على الرغم من بروز مؤشّرات تفيد بوقوف الدولة العميقة خلف الرئيس.
وبمرور الوقت، تتعمّق الخلافات، وتضمحل فرص التوافق. ومن الواضح أنّ الانتخابات التي تسوّق عادة لتكون مفتاح الحل في هذه الأزمات المستعصية لم ولن تؤدّي إلى المطلوب إذا ما ظلت المعطيات القائمة على حالها، ولدينا في المثالين اللبناني والعراقي خير برهان في هذا المجال، فالانتخابات تكون عادة الخطوة الحاسمة ضن حزمة التوافقات الوطنية، للوصول إلى حل يقنع الجميع على قاعدة الطمأنة، والاكتفاء بالمنافسة الحرة السلمية عبر برامج تعطي الأمل بإمكانية الوصول إلى الأفضل. أما أن تكون الانتخابات وسيلةً لشرعنة سيطرة القوى العضوية في هذا المحور الإقليمي أو ذاك، فإنّها تكون حينئذٍ أداة للتعطيل، ومقدّمة لمزيد من الانهيارات والتدخلات.
هل وصلنا إلى مرحلة استحالة التعايش المشترك بين المكونات المجتمعية أو المناطقية التي تتشكل منها دول منطقتنا التي تعيش حالياً واقع الأزمات المفتوحة؟ هل أصبحنا أمام واقع “الهويات القاتلة” الذي حذر منه أمين معلوف قبل أكثر من عقدين، وذلك في أجواء الخطاب الطائفي البغيض، والقومي العنصري المقيت، الذي بات، بكل أسف، جزءاً من الخطاب اليومي المعاش في صفوف قطاعات واسعة من ناسنا المغلوبين على أمرهم، وأمام صمت النخب وعدم جرأتها على مواجهة ما يجري، والتحذير منه، بنَفَسٍ وطني جامع؟ أم ما زال لدينا بعض الأمل، وقابلية لتدارك الموقف قبل فوات الأوان؟
ولا يقتصر الواقع المأزوم على الدول العربية المشار إليها، بل يشمل دولاً غيرها، ولكن هذه الأخيرة استطاعت التعايش مع أزماتها الداخلية، وتحاول، بشتى السبل، الإيحاء بأنها مستقرة؛ هذا بينما تؤكد المعطيات الملموسة أنّها أيضاَ تعاني من الفساد والمحسوبيات، ويعاني مواطنوها من الأزمات المعيشية، ومن انعدام الفرص العادلة، ويواجه شبابها بقلق كبير ضبابية المستقبل
وحدها دول الخليج ربما تكون حتى الآن في منأى عن الأزمات الداخلية الكبرى، ولكن المخاطر الإقليمية التي تهدّدها، هي الأخرى، جدّية وحقيقية، ويمكن أن تأخذ في المستقبل القريب، وليس البعيد، منحىً أكثر سلبية؛ وذلك إذا ما استمرّت المعادلات والحسابات الدولية وانعكاساتها الإقليمية على حالها. ومن يدري، فقد يكون هناك مستقبلاً المزيد من الانتكاسات والتراجعات إذا ما تم التوصل إلى تفاهمات بخصوص الصفقات التي تُطبخ اليوم.
منطقتنا في أمس الحاجة إلى مقاربات جديدة على جميع المستويات. على المستوى الداخلي الوطني في كل دولة، وعلى المستويين الإقليمي والدولي، فالحجر الأساس في أي استقرار إقليمي هو الاستقرار الوطني في كل دولة في الإقليم. وهذا لن يتحقق من دون طمأنة جميع المكونات والجهات بمشاريع وطنية تضع حداً للفساد الذي يلتهم الموارد، ويتخندق حماته من المليشيات، وحتى القوى النظامية، المرتبطة بمشاريع عابرة للحدود في مواجهة شركائهم في الوطن. وعلى المستوى الإقليمي، المنطقة بأمس الحاجة إلى تفاهماتٍ أساسها المصالح المشتركة، والمنافع المتبادلة. تفاهمات تضع حداً للحروب والمنازعات التي أرهقت الجميع، وتفتح الآفاق أمام المشاريع الاقتصادية النهضوية والأسواق المشتركة؛ وتوفر مزيدا من فرص التعليم والعمل أمام الجيل الشاب، فمثل هذه التفاهمات، إذا ما تحقّقت على أرضية صلبة تستند إلى الثقة المتبادلة، والشعور المشترك بإمكانية تحقيق الانتفاع المتبادل، فإنّها ستضع حداً لكل أشكال التطرّف التي تولّد الأحقاد الشمشونية المدمّرة للاجتماع والعمران.
تمتلك منطقتنا من الطاقات والموارد التي تمكّنها من بناء علاقات دولية متوازنة مع الدول الكبرى والصغرى في مشارق الأرض ومغاربها، في شمالها وجنوبها؛ وذلك على أساس المصالح المشتركة، ومن دون اتخاذ أي موقفٍ متحيّزٍ أو عدائي لصالح هذا الطرف أو ذاك، في مواجهة هذا الطرف أو ذاك.
هل نحلم إذا أكّدنا حاجة منطقتنا مستقبلاً إلى منظمة إقليمية تجمع بين دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، هدفها الرئيس يتمحور حول المصالح الاقتصادية المشتركة التي سيستفيد منها الجميع. ولكن قبل ذلك كله لا بد من وضع نهاية للحروب والتخندقات والصراعات التي تقطع الطريق أمام أي فكرةٍ للتعاون الاقتصادي التنموي.
لن يكون الطريق إلى تحقيق هذا الهدف – الحلم سهلا بطبيعة الحال، بل يبدو أنّه في دائرة المستحيل راهناً، ولكنه هدفٌ يستحق بذل الجهود من أجله في كل الميادين وعلى مختلف المستويات، خصوصا من خلال الحوارات الهادئة بين النخب من سائر الاختصاصات. كما أنّ هذا الهدف يستوجب إعادة النظر في مفاهيم ومواقف كثيرة، ويتطلب القطع مع المشاريع التوسعية، والنزعات العاطفية الانفعالية السلبية بأشكالها وتمظهراتها المختلفة. وقبل هذا كله وذاك، لا بد من تحقيق الوئام المجتمعي ضمن كل دولة، عبر ترسيخ أسس الثقة المتبادلة بين جميع المكونات، والقطع مع الاستبداد والطغيان، وتحسين قواعد العيش المشترك، وذلك كله لن ينجز من دون وجود قوى سياسية – اجتماعية بقيادة حكيمة عادلة متبصّرة، ملتزمة بالأولويات الوطنية، ومقتنعة بأهمية المشروع الوطني العام الذي يبدد هواجس الجميع وضرورته.
العربي الجديد