الحوار التفاوضي ودائرة الثقافات السبع
محمد زكي أوسي
عندما نكون بصدد التأكيد على ثقافة التفاوض ومفاهيمها العلمية, علينا إدراك أنّ معطيات مثل هذه الثقافة لا بدّ أن تسود سلوكيات أطراف الحوار التفاوضي, وأن تتغلّب على مجموعة سلوكيات وأنماط الحوار السلبية في واقعنا, والتي ترسّخت في تفاعلاتتنا وقضت على عمليات التفاوض والحوار الإيجابي في أزماتنا, ولاتزال تعمل على تقويض روح العمل الجماعي البنّاء وتحقيق نتائج تفاوضية إيجابية في الكثير من جوانب حياتنا الاجنماعية والإدارية والسياسية إلى الآن, مما أدّى إلى شيوع ظاهرة (التحلف)، أي أنّ حركة المجتمع أصبحت كحركة السلحفاة, ليس فقط من ناحية البطء, بل أنَّ هذه الحركة ينتابها نوع من (البيات الشتوي) قبل التحرك ببطء شديد تارةً أخرى.
وهنا لابدّ من تجنب هذه السلبيات بأن يكون ممثلو الحوار التفاوضي على دراية بها, لأنّ السقوط في براثنها يعني فشل عمليات التفاوض الاجتماعي والسياسي, أما على المدى البعيد فعلينا زرع مفاهيم (ثقافة التفاوض) ومحو سلبيات تفاعلاتنا في العملية الإعلامية والتعليمية والتي هي:
أولاً: ثقافة التناحر: ثقافة تعتمد مبدأ المباراة الصفرية وتهدف سحق الآخر أو إقصائه لفرض الهيمنة وتتّسم بالآتي:
1- الخطاب المنغلق على الذات ممّا يؤدّي إلى فقدان جسور التواصل وإلى الانعزالية بصورها كافة.
2- التفنن في تكنولوجيا العداء تجاه الآخر . 3- الانفعال والمناكفات اللسانية حتى الوصول إلى حد الحوار بالطلقات. 4- استخدام الحجج والبراهين لا للدلالة على قوة الرأي بشكلٍ موضوعي بل للدلالة على خطأ التوجه الفكري والعقائدي للآخرين.
ثانياً: ثقافة التسلط: وهي أكثر تداخلاً مع دائرة ثقافة التناحر, ومنها تمخّضت الشخصية الاستبدادية التي يكون حوارها أو عدمه إما تعبيراً مختصراً مجسّداً لاستغلالها سلطات حقيقية ممنوحة لها بحكم الوظيفة أو السياق, أو يكون حوارها انعكاس لذلك الإرث الناتج عن طول غياب الديمقراطية, مع وجود نظامٍ تعليمي تلقيني جامد, وشحن العقول التي لم تتحرّك خارج نطاق منظومة الاستبداد, بمقولات اتّسمت باحتكار الحقيقة, لقد أوجدت هذه الثقافة شخصيات تفتقر إلى التوازن النفسي, وهنا نجد خضوعاً وممارسة الأساليب الدونية في الحوار مع السلطة أو المكانة القوية الأعلى.
ثالثاً: ثقافة التآمر: في كثيرٍ من تفاعلاتنا, تتمثّل صور التفكير التآمري هيمنة على مستوى إنتاج الحوار أو فهمه مشكلة حقيقية نعاني منها, فما أكثر المواقف التي نمرّ بها في حواراتنا ونكتشف من خلالها أنّ متحاوراً أخطأ في تقدير الموقف وظلم نفسه قبل ظلمه الآخرين بسبب التصنيف التآمري المشّرع والمتعسف لملابسات حدثٍ أو علاقةٍ اجتماعية أو سياسية, والسبب يكمن في سيطرة التصورات المسبقة والانطباعات الأولية, وإذا كان شقّ المشكلة الأول على صعيد تصنيف الحوار في ظلّ هيمنة الفكرة التآمرية, فإنّ الشقّ الثاني هو ذلك القبول سريع المعقولية ما يقال ودون تحفظ من قبل المتلقي لمادة الحوار غالباً, الأمر الذي يجعله ضحية التصور والتفكير التآمري الوهمي والذي يقوده إلى مواقف خاطئة.
رابعاَ: ثقافة غيبوبة الماضي: لا شكّ ثمة ايجابية للماضي والتاريخ إذا أحسنّا توظيف هذا, خاصةً أنّ من مصادر قوة الأمة أنها في لحظات تاريخية تستوحي القوة والعزم من أمجاد الماضي, لكنّ الخطورة تكمن في تحول الأمر إلى غيبوبة دائمة تنسينا الأخذ بأسباب التغيير وأسباب استعادة ما كان مجيداً في تاريخنا, والمتحاورون طبقاً لهذا يتقسمون فئتين الأولى: تراكمية ترى التاريخ القديم مرجعاً أساسياً طاغياً على الأطر المرجعية الأخرى. الثانية: أقلّ ماضويةً, ولكنها تجمّد نشاطها الذهني والتحصيلي عند نقطة معينة في الماضي القريب, والصفات الرئيسية لثقافة غيبوبة الماضي بفئتيها تجسّد :
1- تذكّر الماضي جيداً ولكن نسيان دروسه بسرعة غريبة.
2- ترك أمر المتابعة والتطورات السريعة التي يشهدها العالم في مجالات الحياة كافة, والاستكانة للأنماط السابقة التي قد تكون حديثة طبقاً لتصورات البعض, ولكنها قديمة بالية لا تتماشى ومتطلبات اللحظة الراهنة, وسرعة حركة الفكر والتطور الإنساني المتقدم.
خامساً: ثقافة الاستلاب والإحباط. ملامح هذه الثقافة:
1- الشعور بأنّ هناك من حدث لهم (التنويم المغناطيسي) من قبل طرف متحاور, بحيث ينقادون إلى خطٍ محدد لهم من قبل آخرين أياً كان توجههم, وهنا نتساءل كيف استُلبت إدارة هؤلاء؟ وكيف انغلقوا على قيم معينة بصورة جامدة؟
2- هؤلاء المستلبون ليس لديهم قدرة على رؤية البدائل, ويشعرون بالأمان مع القريب لهم, ومن هنا استعدادهم للدفاع عن وضعهم الخاطئ إلى حد الكذب تحت بند التبرير العقلاني: وهم أكثر الفئات مقاومةً للتغيير.
3- المتحاورون في ظلّ هذه الثقافة يجسّدون حالة الإحباط الشديد ويفقدون القدرة على تبنّي أيّ صيغةٍ فاعلة, لذا تعكس حواراتهم شتى أنواع التعبير عن الإحباط والشكوى وتبني ما يسمّى بحالة الغفران العام, فتقع مخالفات جسيمة تبلغ حد الجريمة وتمرّ دون اكتراث أو حساب طبقاً لثقافة الاستلاب, وتتسم الملامح الحوارية طبقاً لهذه الثقافة بما يسمّى بـ: (حوارات كبش الفداء) فالمتحاور مستعد نفسياً وذهنياً لقصر إشكالية ما أو تصرفات شخصية ما بعينه دون النظر إلى الجذور والأسباب المؤدّية إليها, والتي عادةً لا تكون شخصية كبش الفداء هي السبب الجوهري في وجودها.
سادساً: ثقافة الصمت والغموض السلبي: للصمت والغموض آليات ووظائف عديدة يطرحها علينا خبراء النفس وعلوم اللغويات العرقية, ولكن لآلياتها في واقعنا خصوصيتها, فهي ترتبط بآليات اللامباشرة في الحوار, واستخدامها قد يكون له ما يبرّره كأدوات حوارية في سياقات معينة, إلا أنّ ما يجب بيانه, هو إساءة توظيف هذه الآليات في لحظاتٍ حرجة في علاقةٍ ما حين يستوجب الأمر الوضوح والرأي الحاسم, وطبقاً للمعطيات السلبية لهذه الثقافة نجد الكثيرين يوظّفون آليات الصمت والغموض, لعجزٍ في توصيل المعنى المقصود, أو الافتقار لشجاعة المواجهة الصحية, أو اللعب على الحبلين والتأويل والانتهازية تبعاً لظروف سير الأمور.
سابعاً: ثقافة تبديد الوقت: لا شكّ أننا نفتقد الجهد والطاقة والمال كثيراً, بسبب سوء إدارة واستغلال الوقت, وثمة ملامح كثيرة تدلّ على ثقافة تبديد الوقت الناتجة عن العادات الاجتماعية السلبية وسوء التنظيم وإدارة الأعمال, ولكن هناك أموراً تقنية متعلّقة بالقدرة على الإيجاز والتوضيح في الحوار المسموع والمكتوب يفتقدها الكثيرون, كذلك فإنّ هناك أنماط ردّ الفعل السريع والمنفعل الذي ينتج عنه خسائر تحتاج وقتاً لإصلاحها, وكذلك هناك أنماط عكسية مثل ردّ الفعل المتأخر.
وكلّ من نمطي ردّ الفعل المتسرّع أو المتأخّر من الأنماط ذات العلاقة الوثيقة بثقافة تبديد الوقت, ولا شكّ أنّ هناك مهارات كالإيجاز تحتاج تدريباً حتى لا يأخذ من الحوار أكثر مما يستحقّ ونتوه في جدليات الوسائل, وهنا علينا الاجتهاد في حصر كلّ ملامح ثقافة تبديد الوقت, والعمل على التخلص منها, مثل التخلص من ملامح البيروقراطية التي تبدّد المزيد من الوقت والطاقة للمواطن العادي والساسة على حدٍ سواء, هذا بالإضافة إلى التخلص من أعراض الثقافات السابقة التي تؤدّي كما أسلفت إلى ظاهرة التحلف التي ينبغي القضاء عليها للوصول إلى ناتجٍ يمكّننا من معرفة ما يحدث حولنا, والانطلاق لملاحقة الإيقاع الصاروخي الذي يسير به المتنافسون والخصوم من حولنا في العالم.
المقال منشور في جريدة يكيتي العدد 296