أخبار - سوريا

الخذلان الأميركي.. من ضياء الحق إلى البرزاني وما بينهما

أحمـد زيـدان

استدار زمان التمرد الكردي كهيئته لما بدأ، يوم أعلن رئيس إقليم كردستان العراق مسعود البرزاني تخليه عن الاستفتاء وتبرئه من الاستقلال، وزاد على ذلك إعلان استقالة مفاجئ لم يكن مخططاً لها، ولكن لضغوط القوي المنتصر في بغداد ومن خلفه طهران وواشنطن حق على الضعيف المهزوم في إربيل، فهل تخيّل سليل أسرة كردية عريقة بدأت بوالده الملا مصطفى البرزاني أن تصل به المهانة إلى أن يقبل بما قبل به، وعائلته التي قاومت من أجل يوم الاستفتاء هذا لقرن تقريباً، فألفى نفسه كما قال الشاعر السوداني الراحل إدريس جماع:
ان حظي كدقيق فوق شوك نثروه
ثم قالوا لحفاة يوم ريح اجمعوه
صعب الأمر عليهم ثم قالوا اتركوه
إن من أشقاه ربي كيف أنتم تسعدوه
لن نتدخل هنا في المشيئة الإلهية كما عناها الشاعر، فذاك تألّ على الله باعتقادنا، ولكن سنتدخل في مشيئة حلفاء عائلة البرزاني الذي عوّل عليها مسعود ومن قبله والده المؤسس لقرن تقريباً فوجد حظه ونفسه كما عناه الشاعر.
نجح العبادي فيما فشل فيه صدام حسين، ولكن نجاحه لا يُسجل له، فهو لا يعدو أن يكون كومبارس سياسي، وإنما اللاعب الحقيقي والخفي كان طهران ممثلة في قاسم سليماني الذي أمضى ليلة العشاء الأخير للاستفتاء من خلال إعلان خيانة علنية للحزب الوطني بقيادة الطالباني فكان تسليم كركوك وسنجار وغيرهما، نكاية بالبرزاني وقيادته، وتثبيتاً للمثل الكردي العريق إن تاريخنا خطان متوازيان خط مقاومة وخط خيانة.
خال البرزاني أن وقوفه إلى جانب واشنطن كحليف عسكري قوي على الأرض منذ عام 2003 مع تسليحه بأفضل الآليات العسكرية الأمريكية لمقاتلة داعش، سيعني دعمه في حق تقرير المصير والاستقلال، لكن مرة ثانية يُخطئ الكرد في قراءة الموقف الأمريكي، أو مرة ثانية ينجح الأمريكيون في خديعة العراقيين، فمن قبل صدام واليوم البرزاني، ومرة أخرى يتكرر التاريخ مع الابن مسعود فالأب مصطفى توقف عنه الدعم التسليحي الأمريكي بمجرد أن وقع صدام اتفاقه مع الشاه عام 1975، واليوم يتكرر الاتفاق الأمريكي الإيراني بضرب حلم إربيل الكردي.
ومن تحت قبة البرلمان أعلن مسعود البرزاني صراحة في رسالة قرئت له بأنه لم يقف معنا سوى جبالنا وللأكراد مقولتهم المشهورة لا أصدقاء لنا سوى جبالنا، وهو ما يكرره الأفغان، وربما كل البلاد ذات الطبيعة الجبلية، وتساءل البرزاني في رسالته الموجهة للبرلمان الكردي: لماذا تريد واشنطن معاقبتنا، فقد سمحت للحكومة العراقية باستخدام أسلحتها ضدنا، ومن قبل حذر السفير الأمريكي السابق في دمشق روبرت فورد الأكراد بأن أمريكا تستعملهم، لكن لم تخلُ الساحة الأمريكية من أصوات تصرخ في البرية الأمريكية السياسية المخالفة، فكان تحذير المرشح الأمريكي السابق جون مكين في مقال مهم بالنيويورك تايمز من مغبة التخلي عن الأكراد واعتبر هذا سقوطاً أخلاقياً أمريكياً: “لقد تخلينا عن حليف مهم في المنطقة”، وهو ما وصفته هيلاري كلينتون في مذكراتها بأنه أهم من الحليف الشيعي.
الجلي أن الكرد واقعون الآن في تيه سياسي وديمغرافي خطير ربما لم يسبق له مثيل، فهم أحرقوا مراكبهم مع المحيط السني بممارساتهم في دعم الحشد الشيعي والحكومة المركزية الشيعية ببغداد ضد المناطق السنية تحت شعار محاربة تنظيم الدولة، واليوم دمروا علاقتهم تقريباً مع حليفهم الشيعي في بغداد ومن خلفهم طهران وواشنطن، وبالتالي أزمة ثقة سيعانون من تداعياتها لفترة طويلة، ما لم تكن هناك جرأة حقيقية من مسعود البرزاني وحزبه بإطلاق مصالحة تاريخية بين العرب السنة والكرد، مستعينين بإخوانهم السنة العرب الذين كانوا لهم خير حليف تاريخي بمعزل عن المستبدين الذين حكمونا بأسوأ مما حكموهم.
إحباط إخواننا الكرد في حرمانهم من دولة تخصهم مطلع القرن الماضي، قابله تماماً إحباط العرب من تقسيمهم إلى عشرين دولة تحت أنظمة استبدادية شمولية ديكتاتورية، لا فرق حينها بين أن تكون تحت دولة واحدة أو دول متفرقة، فقد وحّد المحتل بيننا في حرماننا من أشواقنا في الحرية والعدل والمساواة، ولا نزال متوحدين لكن تحت قصف أمريكي وروسي وإيراني على الشام، وبين قصف إيراني ودعم أمريكي على الكرد في حرمانكم من حق ترونه، لكن نراه لكم بطريقة مختلفة، وهو أننا نستطيع أن نعيش في ظل عدل وإنصاف سوية، لنجابه معاً، مخاطر وتحديات مشتركة، شئنا أم أبينا، ونحن نرى ونلمس اليوم أن تراجعكم في إربيل، وانبطاح السليمانية لطهران، هو فرصة ذهبية لتنامي القيادة الطائفية العلوية لحزب العمال الكردستاني الذي غدا مرتبطاً عضوياً بدمشق وطهران، مع تغييب وتهميش القيادات السنية التاريخية عنه وكان منها عثمان أوجلان شقيق المعتقل عبد الله أوجلان.
لعلي أطلت بالحديث عن الخذلان الأمريكي واستطالاته، وقد ذكرني به أخيراً تصريح وزير الخارجية الباكستانية آصف خوجا لنظيره الأمريكي ريكس تيلريسون في إسلام آباد بأن على واشنطن أن تعترف بفشلها في أفغانستان، وقد تجرأ الوزير الباكستاني على ذلك بعد أن تمادى الرئيس الأمريكي دونالد ترمب في الإعلان صراحة عن التخلي عن باكستان ومعاقبتها لما وصفه بإيواء الإرهابيين، والاعتماد على الهند في الحرملك الباكستاني من أفغانستان، وهو الأمر الذي تعتبره إسلام آباد خذلاناً ما بعده خذلان، كونها ضحت بالكثير، يوم وقفت مع أمريكا ومع 38 دولة في خلع طالبان أفغانستان عن السلطة عام 2001 وهي التي كانت تصفها إسلام آباد بالرصيد الاستراتيجي لها.
هذا التصريح أثار حدثين تاريخيين باكستانيين في ذاكرتي، أولهما عاصرته وهو حين شعر الرئيس الباكستاني الراحل ضياء الحق بدنو أجله بسبب خذلان واشنطن له وتلك قصة أخرى لا بد من العودة إليها يوماً، لكن ما يهمني هنا هو حين شعر بذلك وبخذلان واشنطن له بعد تحقيق هدفها بهزيمة السوفييت في أفغانستان عام 1988 قال قولته المشهورة يومها:” إن من يتعامل مع واشنطن كمن يتعامل في تجارة الفحم لن يناله سوى سواد الوجه واليدين” وهو مثل أوردي عريق، ومن قبله كتب الرئيس أيوب خان الذي قاد أول انقلاب باكستاني عام 1958 كتابه لكن في آخر أيامه بعنوان “أصدقاء لا أسياد” شرح فيه أن ما يهمه في العلاقة مع أمريكا الصداقة وليس العمالة والسيادة.
سجل الخذلان الأمريكي لحلفائهم ضخم وكبير، فبالأمس تم التخلي عن الحليف التركي الذي يمتد حلفه لقرن تقريباً مقابل دعم مليشيات كردية مشتتة بعضها مصنف أمريكياً بالإرهاب كحال حزب العمال الكردستاني، واليوم نرى التخلي التدريجي عن الأردن، والتهديد بقضية قديمة جدية هي الوطن الفلسطيني البديل ليصدق حينها ما كتبه الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون: “من الخطير أن تكون عدواً لأمريكا ولكن الأخطر أن تكون صديقاً لها”.
نوشيروان مصطفى أمين نائب جلال الطالباني لفترة طويلة تنقل عنه مجلة أتلانتيك في عددها الأخير والذي وصفته بالخبير التاريخي والاستراتيجي قوله: “لطالما حذرت الأكراد من وضع بيضهم كله في سلّة واشنطن”، وأخيراً فإن الكرد حليف عسكري تكتيكي لأمريكا، بينما حكومة بغداد الشيعية الموالية لطهران حليف عسكري وسياسي استراتيجي لواشنطن.. ذاك هو الفرق تماماً كحال باكستان كحليف تكتيكي لواشنطن ونيودلهي كحليف استراتيجي لها.
أحمد زيدان مشرف برنامج للقصة بقية في قناة الجزيرة القطرية.

مــدونات الجـزيـرة

جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عــن رأي Yekiti Media

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى