الدستور السوري وإشكاليات تدويل الأزمة
حسين معلوم
أن يعتزم مبعوث الأمم المتحدة الخاص إلى سورية، ستيفان دي ميستورا، إجراء محادثات «رسمية» خلال الأيام المقبلة في جنيف، مع روسيا وتركيا وإيران، للبدء في وضع اللمسات الأخيرة على لجنة تهدف إلى صياغة دستور سوري جديد، فهذا يؤشر إلى مفاوضات ستركز على «سلة الدستور»، ما يعني أن هذا الملف يتقدم ليُصبح أولوية أممية للعبور إلى الحل السياسي للأزمة السورية، أو بالأحرى الانتقال إلى التسوية السياسية لأطراف النزاع في سورية، والصراع عليها في الوقت نفسه. ثم، أن تستبق هذه الدول الثلاث تلك المحادثات مع المبعوث الأممي، بعقد قمة ثلاثية -في إيران- حول سورية، فهذا يُلمح إلى مدى التنسيق الحاصل بينها في شأن اللجنة الدستورية التي يتم الدفع في اتجاه تشكيلها لصياغة الدستور السوري، ما يعني استقرار الأمور لمصلحة الطرف الدولي الفاعل على الساحة السورية، روسيا، الذي يستعين بالطرف الإيراني ويتعاون مع الطرف التركي، لتأكيد حصوله على مُبايعة «المجتمع الدولي» له في الهيمنة على الساحة السورية، أو بالأحرى تأكيد تمركزه كنقطة فاصلة في تفاعلات الأزمة السورية، وفي توجهات تسويتها المُرتقبة أيضاً. وفي ما يبدو، هكذا، فإن الهيمنة الروسية بهذا الشكل الذي نراه الآن، بصرف النظر عن توصيف البعض لها بأنها «تحالف» مع النظام، وبموافقته، أو توصيف البعض الآخر لها بكونها «احتلالاً»، تؤكد أن أي عملية سياسية في سورية لا يُمكن أن تتم إلا بموافقة موسكو، بالتنسيق مع شريكيها إيران وتركيا.
ويكفي أن نُلاحظ الآن كيف أن عودة اللاجئين السوريين إلى بلادهم، بدأت تنحصر بالممرات الروسية، بل، يكفي أن نُلاحظ، في الإطار نفسه، كيف تصدّرت اللجنة الدستورية المشهد السياسي في سورية، على مدار الأشهر الماضية، منذ إقرار تشكيلها في مؤتمر «الحوار الوطني»، في مدينة سوتشي نهاية كانون الثاني (يناير) الماضي، وكيف تم الترويج لها كنقطة رئيسة في ترسيم ملامح المرحلة المُقبلة في سورية، بعد الانتهاء من العمليات العسكرية بين النظام والمعارضة على الأرض. فإذا أضفنا إلى ذلك، الوحدات العسكرية لجيوش «التحالف» الموجودة على الأرض هناك، لنا أن نُدرك ملامح الإشكاليات التي ستنتاب ليس، فقط، عملية صياغة الدستور السوري الجديد، ولكن، أيضاً، عملية تشكيل تلك اللجنة المنوط بها إنجاز هذه الصياغة، وذلك من منظور الكيفية التي تمّ من خلالها «تدويل» الأزمة، طوال السنوات الماضية، ومدى تأثير مثل هذا التدويل على اللجنة الدستورية وأسلوب عملها. في مقدم هذه الإشكاليات، تأتي كيفية تشكيل اللجنة الدستورية، وبصرف النظر عن التساؤل حول: هل تتحدد وظيفة اللجنة في وضع الدستور، أم في صياغته؟، فإن الأهم هي التناقضات القائمة بين أطرافها، سواء بين الأطراف التي تُمثل النظام وتلك التي تمثل المعارضة، أو بين الأطراف التي تمثل المعارضة نفسها. فهذه الأطراف ليست على حال من التوافق بما يتعلق في شكل ورؤية التسوية، التي يمكن على أساسها وضع المبادئ الناظمة للدستور، بل، على العكس، فهي تنتمي إلى جهات على أطراف نقيض، وليس طرفي نقيض فقط، وهو ما سينعكس سلباً على أسلوب عمل اللجنة، ونتائج هذا العمل.
يتأكد هذا، إذا لاحظنا الضغط الروسي على المبعوث الأممي، دي ميستورا، لضمان حصة 50 في المئة من أعضاء اللجنة للنظام، و30 في المئة للمعارضة بأطيافها كافة، والبقية من خبراء دوليين كمستشارين عن الأمم المتحدة، والذين من المحتمل أن تكون صفة «المراقب» هي وضعيتهم داخل اللجنة. ومن ثم، فإن هذا يؤشر إلى التوجه الروسي الجدي في ضمان أن الدستور السوري «الجديد»، أياً تكون بنوده، لن يخرج إلى النور إلا بعد موافقتها هي عليه. إشكالية أخرى، تطرح نفسها في هذا المجال، نعني: أي دستور سوري هذا الذي سيؤسس لسورية المستقبل؟ المسوّدة الروسية للدستور السوري، أم دستور جديد ستضع بنوده الأساسية اللجنة المزمع تشكيلها؟ والمسألة، كما هو معروف، أن فكرة صياغة دستور سوري جديد، طرحت للمرة الأولى من قاعدة حميميم العسكرية الروسية، وضمن اجتماع لـ «معارضة الداخل»، في أذار (مارس) 2016. ولأن الاجتماع انتهى بالتصريحات فقط، لذا أعادت روسيا طرح مشروع الدستور علناً، مع ختام محادثات آستانة الأولى، في كانون الثاني (يناير) 2017، بعد أن أعدّه خبراء روس. وبالتالي، فإن الاحتمال الأرجح أن الدستور الجديد سيتضمن البنود الرئيسة في المسودة الروسية القديمة، تلك التي ستُطرح على بساط البحث أمام اللجنة الدستورية، عبر «تمرير» معظمها من خلال حصة النظام في اللجنة. ومن ثم، فإن الدستور السوري، هذا، سواء كان جديداً أم جاء مُعدلاً، سيكتسب شرعيته من خلال احتضان الأمم المتحدة للمحادثات في شأنه، تحت غطاء القرار 2254، وضمن سياق ما يُسمى مسار جنيف، إلا أنها شرعية ـ وهنا مكمن الإشكالية ـ لم تأت من الشعب السوري نفسه، أو حتى من انتخابه لممثليه، بقدر ما هي شرعية «مفروضة» من الخارج، بعد دخول أطراف دولية وإقليمية على خط الأزمة السورية، واستحواذها على القرار السياسي فيها.
الإشكالية الأهم، في إطار تعدد هذه الإشكاليات، تلك المتعلقة بالأطراف الدولية المتصارعة على سورية. فإذا كانت الهيمنة الروسية على تطورات الأزمة، وتفاعلاتها، لا تحتاج إلى برهان للدلالة عليها، إلا أن ذلك لا يعني أنها هيمنة مُطلقة، بل تنبنى على توافقات مع أطراف دولية أخرى، خصوصاً الولايات المتحدة الأميركية والدول الأوروبية. صحيح أن روسيا، مع شريكيها الإقليميين تركيا وإيران، تمسك بزمام الخطوط العامة للحل السياسي والعسكري في سورية، وصحيح، أيضاً، أن المعارضة السورية أصبحت الآن في وضع حرج للغاية، بعد أن أعلنت الولايات المتحدة أنها «لن تتدخل»، هذا فضلاً عن مصير المعارضة المسلحة الذي أصبح شبه محسوم، إلا أنه يبقى من الصحيح، كذلك، أن الضغط الذي مارسته، وتمارسه، روسيا لإلزام الأمم المتحدة بالأخذ بمشروع اللجنة الدستورية، كـ «بوابة» لحل الأزمة سياسياً، إنما يأتي في إطار يُمهد لتوافقات بينها وبين الأطراف الدولية الأخرى، الغربية تحديداً. وهكذا، فإن التعاطي مع حل النزاع في سورية لا يمكن أن يكون محلياً في سياق مثل هذا التدويل، بل،لا نُغالي إذا قلنا: إن الصراع على سورية، ومدى إمكانية التوافقات الدولية، وكذا التفاهمات الإقليمية، حول ملامح مستقبلها كـ «دولة»، سيكون هو المدخل الذي يتأسس عليه الدستور السوري. وإذا كان صوغ الدستور يُمثل مرتكزاً في إطار الصراع على سورية، فإن الاستفهام الذي ندفع به، في هذا الشأن، يتمثل في كيفية إيجاد دور عربي فاعل، في رسم ملامح مستقبل واحدة من الدول المحورية في المنطقة العربية.
الحياة