آراء

الدين الكروي والقفز فوق حاجز البؤس

فرحان مرعي

ما هو السرّ وراء الإهتمام الزائد للإدارة الذاتية بالشباب الرياضي ورعايته، في مناطقنا ، والسماح لهم بإقامة النوادي والصالات الرياضية المغلقة والمفتوحة، وفي نفس الوقت، تغلق المدارس ، و لا تسمح لهم بفتح المراكز و المعاهدالخاصة بالتعليم؟

ما هو السر وراء السماح بالتجمعات الشبابية بالآلاف في الملاعب، بينما لا تسمح بتجمعٍ صغير للاحتجاح على وضعٍ إقتصادي مأزوم؟ ماذا وراء هذه الحركة الرياضية النشطة؟ ، لماذا يُسمح لكلّ قرية بإقامة ملعب كرة القدم بتكلفة ملايين الليرات السورية؛ بينما ذات القرى لا تصلها الطرق المعبدة، وبعضها لا تصلها الكهرباء، وليست فيها حدائق للأطفال، ولا نوادي ثقافية ولا نقاط طبية؟

ما معنى أن تُختزل قضايا الشباب ورعايتهم في مجرد رعاية الأندية الكروية، هل أصبح الملعب هو التعويض عن الفشل في الحياة؟ إنّ التنظيمات الشمولية والسلطات الإستبدادية خوفاً على عروشها ونهبها لخيرات البلاد، تستخدم كلّ وسائل علم النفس لترويض الناس، وتدجينهم ، من أجل خلق جيلٍ مشوّه، فاشلٍ، مهدور الوعي، والنقد، مسطّح التفكير حتى يصبح قيادته سهلةً، لذلك تجد في الواقع كثيراً من الشباب يريدون أن يعوّضوا عن إنكساراتهم وفشلهم في العديد من مجالات الحياة في الملعب، هنا الملعب، يصير بمثابة المتنفّس الحقيقي عن الكبت الداخلي المتراكم منذ سنين- سنين من القمع والمعاناة- وتعبير مشوّه عن انتكاساتهم، في الحياة، ولحظات تفربغ آنية عن الضغوطات اليومية ، والبحث عن الشهرة الزائفة، والنجومية في عالمٍ مليء بمظاهر القمع و العنف، يريد أن يعوّض عن فشله في البحث في مجالات الدراسة والتعليم والعمل- في البحث عن شهرةٍ زائفة، عن طريق تسجيل هدفٍ في مرمى الخصم، أو ما تسمّى بالضربة الصاروخية من قدمه ،أو الهدف الذهبي برأسه ، دوبل كيك …الخ الخ الشارع الكُردي اليوم، وفي ظلّ ازدهار تجارة الحرب وأسواقها ، يشهد سباق محموم من أجل النجومية المالية، تجدهم، يركضون وراء الكسب المادي، وبأي طريقة كانت، ملتوية ، وغير شرعية، المهم جمع المال ، كما يركض الشباب وراء الكرة من أجل النجومية الزائفة!!!!!

إنّ خيبات الأمل والهدر تحتاج إلى هكذا مخارج، استبدال فراغ الحياة إلى مخارج النجومية السريعة الزائفة ، الخطر يكمن حين تحلّ النحن الكروية محل النحن الوطنية، لم نعد بصدد متعة اللعب والحماس، ولحظات من الرفاهية، بل إبدال قضايا الوجود في آمالها وأحلامها واحباطاتها وكذلك قضايا الإنتماء الجماعي والهوية، وإحلال المباريات ونجومها وشاراتها محلها، لقد أصبحت كرة القدم مجال تجسيد البديل للنضالات الوطنية والمطلبية العامة، لقد أصبحت (الضربة الصاروخية) من قدم أحدهم للدلالة على القوة، التي باتت ترتبط بالمخيال الإجتماعي بالتماهي مع العلاقة الافتراضية بين القدم والرأس، العقل !!!!

إن إزاحة الإحباطات الوجودية من مواقعها الأصلية، إلى مواقع أخرى بعيدة عن الشارع والساحات العامة بأسمائها الوطنية التاريخية، إلى الملاعب المغلقة، هو هدف الأنظمة القمعية، وذلك بعد أن تمّ إخصاء قوى المواجهة في قضايا المعاش ، بمعنى اختزال قضايا الوطن في الفريق الكروي، وكأنّ إنتصاره انتصارات في معارك المصير والوجود!!!!

وهكذا، الكتلة الشبابية، الحيوية تفرج عن إحباطاتها واحتقاناتها الوجودية، وتداوي هدرها أو تخدّره في لعبة كرة القدم، الحلم المتبقّي لمن لا حلم له، أو أمل الخلاص لمن هم في مأزق وجودي معيشي، فتتحوّل حفلات التصفيات إلى مظاهرات عارمة في الملاعب، وليس في الشوارع، وتجنّد لها قوى أمنية كبيرة، فالصراخ في الملعب، ليس مثل الصراخ في الشارع، الملعب مغلق معزول، بينما الشارع مفتوح، على كافة الإتجاهات، دعهم، يصرخون، يكسرون يحرقون، هكذا تقول السلطات، – أثاثات الملاعب،، الكراسي، المقاعد،، دعهم يتعاركوا، بدلاً من كسر رموز السلطة في الشارع والحي، دعهم.، يفرّغون عن شحناتهم واحتقاناتهم المكبوتة،، وكأنّ هناك شرعية لأعمال الشعب في الملاعب، تتدخل الشرطة، يفضّ النزاع والشغب الذي يحصل بين الفريقين، ليعودوا ثانيةً إلى أرض الملعب، تحت يافطة الأخلاق الرياضية.؟

ماذا لو أنّ هذه الكتلة الشبابية الحماسية المندفعة خرجت من قمعها، من قمقمها، ودافعت عن حقوقها،، سوف تهتزّ عروشها، هكذا تحسب السلطة وتقيس حساباتها، في النتيجة : هناك في العملية، استثمار للأموال في قضايا ربحية سريعة وغير إنتاجية فالملاعب، لا تنتج الطحين والألبان والأدوية، وحليب الأطفال، الحاجات الضرورية اليومية المفقودة هذه الأيام ، بل تنتج العقول اللامبالية، البعيدة عن الواقع، والركض وراء كرة مجوّفة!!!!! ، ويهدر كيان الشباب عن طريق مخرجات المتعة السريعة والنشوة والإحساس بالوجود آنياً، لكن أبعد ما يكون عن بناء كيان حقيقي، فاعل، و صناعة المستقبل والمصير.

مصدر البحث: الإنسان المهدور، دراسة تحليلية نفسية اجتماعية. د. مصطفى حجازي

المقال منشور في جريدة يكيتي العدد 298

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى