آراء

 الرقص كطقس عبادي 

وليد حاج عبدالقادر

يتفق الغالبية العظمى من المؤرّخين ، وفي خاصية الرقص بشرياً ، على أنه مورس منذ العصور السحيقة في تاريخ البشرية ، والكُرد أسوةً بشعوب العالم أجمع ، اشتغلوا على حركات ايقاعية تواءمت مع حركاتٍ متجانسة ، ومهّدوا لرقصات ، نُفّذت سواءً في القصور الملكية ، حيث كانت تتمّ شتى أنواع الاحتفالات ، وبدون حمل السلاح ، وبزي وملابس خاصة أيضاً ، هذه الرقصات وبحركاتها التي كانت ولم تزل تعبّر عن ذاتها وتؤدّى كتعريفٍ بما يواءم مع إيقاع الجسد ليعبّر عن الذات بشقيه ( النفسي و الروحي ) بحركات عفوية تشي بكلّ بساطةٍ على أنّ الرقص إبداع وبأبعاد شاملة لمناحي الحياة البشرية ، والرقص مورس أصلاً من قبل الكهّان والكاهنات في المعابد كطقوس مقدسة ، كما في المهرجانات الجماهيرية بمختلف أشكالها وتنوعها ، وظلّ طقساً راقياً ، ولكنه مع الايام فقدَ قيمته بعد إسقاط المعايير الطقسية واستبدالها بالتعبيرات الجنسية المبتذلة . وفي الخاصية الكُردية فقد مورس الرقص في المناسبات مثل حفلات الأعراس والحفلات والأعياد ، وقد امتاز الرقص الشعبي الكُردي بأربع سمات وهي :
1 – الطابع الجماعي للرقصات الكُردية الشعبية فهي جماهيرية الطابع ، يشترك فيها أهل التجمع ككلٍّ، قرويبن أو مخيمات المجتمع الرعوي .
2 – الارتباط بالطبيعة حيث رحابها هي المكان التقليدي للأعراس ولغيرها من المناسبات التي يمارَس فيها الرقص الشعبي الكُردي ، لا لغاية مشاركة جمهور كبير بقدر ماهو أنّ الكردي بالفطرة هو عاشق للطبيعة .. البكر (السماء ، الجبال، الأشجار، المروج، إلخ) …
3 – الاختلاط بين الجنسين : حيث لاوجود لنظام الفصل بين الذكور والإناث عند الكُرد ، وإذا وُجد في بيئات قليلة- مدنية في الغالب- فهو دخيل على الثقافة الكُردية الأصيلة، وذكرنا حينها أنّ النساء يخالطن الرجال في جميع مواقع الحياة، فهم يصنعون الحياة معاً، ويعصم الفريقين من السقوط في مهاوي الرذيلة أمور ثلاثة:
– أولها : الضوابط الأخلاقية الصارمة، فالموت هو عقاب جريمة الشرف، وفي الغالب لا تساهل ولا تهاون في هذا المجال.
– وثانيها: الثقة المتبادلة بين الفريقين بحكم العادة والألفة، فمنذ أن يفتح الكُردي (ذكراً أو أنثى) عينيه على الحياة يجد نفسه في بيئة اجتماعية منفتحة.
– وثالثها: الحشمة التي يضفيها اللباس الكُردي الشعبي على الرجل والمرأة، فلا يظهر من جسد الرجل والمرأة ما يثير الشهوة، ويدغدغ الأحاسيس الجنسية.
ومن الطبيعي- والحال هذه- أن يتشارك الرجال والنساء في حفلات الأعراس والمناسبات ، وقد ذكر بعض الباحثين الذين خالطوا الكُرد في المراعي أنّ كلّ رجلٍ تكون بجانبه امرأة في حلقة الرقص، وقد أشار نيكتين إلى ذلك وقال :”إنّ الفتاة الكُردية تدبك بجانب الشباب، وبذلك تستطيع العثور على زوجها في المستقبل”. (نيكيتين: الكرد، ص 173). وقال أيضاً :
“والشيء الغريب في الرقصات الكُردية هو إدراك حقيقة أنّ الرجال لا يعترضون على أن تقف إلى جانبهم في حلبة الرقص امرأة، بل على العكس فهم يشعرون بسرور بالغ في الرقص إلى جانب الحسناوات. وهكذا فعندما يرقص الكُرد فيما بينهم ، يجرّ كل واحد إلى جانبه فتاة، ويشدّ كتفه بجانب كتفها. وعندئذ تضمّ الحلقة عدداً من الرجال بقدر عدد النساء. إنني آسف لكوني لم أصادف رقصة مشتركة بنفسي، ولكن الكُرد لا يرقصون بصورة مشتركة إلا فيما بينهم ، وبعيداً عن نظرات الترك والجنود المُغْرِضة”. (نيكيتين: الكرد، ص 226).
ونقل نيكيتين عن مينورسكي قوله: “إنّ أحد الملّاكين الأغنياء أقام على شرفه حفلة رقص شعبي في أحد الأيام، وما أن ارتفع صوت المزمار (زُرْنا) مع الطنبور [الصواب: الطبل] في القرية، حتى هرعت جميع النسوة، وقد ارتدين أجمل زيناتهن، وأخذن أمكنتهن بين الرجال في حلقة الرقص التي استمرّت حتى المساء، والجميع يضربون الأرض بأرجلهم بين الحين والآخر ضرباً جميلاً”. (نيكيتين: الكرد، ص 169 – 170).
وأفاد الدكتور مَهدي كاكه ئي- مشكوراً- (وهو من كرد خانقين في الجنوب) إنّ في حلقات الرقص الكُردي قد تقف امرأة إلى جانب كلّ رجل، أو تقف مجموعة نسائية إلى جانب مجموعة رجالية، تتلوها مجموعة نسائية أخرى، وبعدها مجموعة رجالية ثانية وهكذا. وقد يكون قائد حلقة الرقص رجلاً يقود الحلقة (حامل المنديل، وتسمّى چُوپی اopî)، وقد تقود المرأة حلقة الدبكة. أما في منطقة عفرين (كرد داغ)، وعند الكُرد في محافظة حلب بشمالي سوريا، فيكون الرجال يداً بيد في مقدمة حلقة الرقص، ثم تكون النساء يداً بيد في الحلقة ذاتها، وعادة يكون صلة الوصل بين الفريقين رجل إلى جانبه والدته، أو زوجته، أو عمته، أو خالته، أو أخته أو ابنته، ومن المعيب أن تكون امرأة إلى جانب رجل لا صلة قرابة قريبة بينها وبينه .
3 – الطابع التراتبي: تكون حلقة الرقص الشعبي الكُردي على شكل نصف دائرة، وقد تقترب من أن تكون دائرة إذا كان الحشد كبيراًَ، وفي الحلقة يكون الجميع جنباً إلى جنب، ويداً بيد، والعادة أن تتحرّك الحلقة من اليمين إلى اليسار، وقد يكون العكس في بعض البيئات، وتكون بقيادة رجل يحمل في يده منديلاً صغيراً أو كبيراً، يلوّح به وفق الإيقاع الخاص بكلّ رقصة، ويُفترض في القائد أن يكون من ذوي الخبرة بفنون الرقص، إضافةً إلى أهمية أن يكون من ذوي المكانة الاجتماعية المحترمة، وقد يكون أحياناً من الفئات الوجيهة، وكانت العادة في قرى عفرين أنه عند ختام العرس (عصر يوم الخميس) يخرج الرجال من حلقة الرقص، وتصبح خاصة بالنساء، ومع ذلك كانت القيادة تبقى للرجل، إذ كان أحد الكهول المعروفين بالرزانة والخبرة بالرقص يأخذ دور القائد، وكانت تؤدّى حينذاك رقصة خاصة بالنساء تسمّى (خاتوني) Xatûnî.
ملاحظات بشأن الرقصات الكُردية:
ـ الملاحظة الأولى: التراث الشعبي الكُردي غني بأنواع الرقصات، وفي جميع البيئات الكُردية (اللورية، والسورانية والكردمانجية، والزازا)، فمنها رقصات ذات إيقاع بطيء جداً، ورقصات ذات إيقاع متوسط، ورقصات ذات إيقاع سريع، ورقصات ذات إيقاع سريع جداً، تواكبه رجّات عنيفة في النصف العلوي من الجسم، وخاصةً في الكتفين والصدر واليدين، والملاحَظ أنّ هذا النمط السريع شائع في الشمال والشرق والجنوب، ولم ألاحظ وجوده في الغرب، ولم أجده في منطقة عفرين، وإذا وُجد فهو مقتبس من مناطق كُردية أخرى. وقد زوّدني كل من الدكتور مَهدي كاكه ئي، وكذلك الأستاذ عبد الرحمن حاجي عثمان (من منطقة عفرين)- مشكورَين- بأسماء كثير من الرقصات الشعبية، مع توصيف حركات كلّ رقصة، ولا أسردها دفعاً للإطالة، وهي تدلّ على خصوصبة هذا الفن الفولكلوري في المجتمع الكُردي.
ـ الملاحظة الثانية: الرقصات الكُردية تحمل في طيّاتها صوراً صادقة عن حياة المجتمع الكُردي، سواءً كان على الصعيد الميثولوجي، أم على الصعيد البطولي، أم على الصعيد العملي، ولمعرفة دلالاتها بدقة ثمة حاجة إلى حفريات عميقة في الذاكرة الجمعية الكُردية، وقد تعود بنا تلك الحفريات إلى عهود المشاعية، وعهود الأسلاف القدماء، بدءاً من الگوتيين وانتهاء بالميديين، وقد تضعنا وجهاً لوجه- ومن حيث لا ندري- مع الرقصات التي يؤدّيها رجال الدين الأيزدي في معبد لالش على إيقاع الدف والناي، ومع رقصات دراويش الطرق الصوفية الكَردية، ولا سيما دراويش الطريقة القادرية (نسبة إلى الشيخ الكُردي عبد القادر الگَيْلاني). وقد نجد أنّ لبعض الرقصات علاقة بمواسم الحصاد، وأخرى لها علاقة بمناسبة إعداد (البُرْغُل)، وثالثة لها علاقة بالحياة الرعوية، ورابعة لها علاقة بالحرب، وهكذا دواليك.
ـ الملاحظة الثالثة: من المفيد أيضاً أن نأخذ دور البيئة بالحسبان في نشأة الرقصات، وكلما وقعت عيني على حلقة رقص بدوية عربية، يقف فيها الرجال بصف مستقيم، ويتحرّكون في أماكنهم هبوطاً وصعوداً وفق إيقاع مديد وبطيء، على إيقاع الدفوف أو طبلات صغيرة، أو حتى على إيقاع أغاني شعبية من غير مصاحبة آلات موسيقية، وجدت في الصف المستقيم بُعد الامتداد في جغرافيا الصحراء، ووجدت في حركات الراقصين حركة مجموعة من الراكبين على ظهور الإبل، وهي تسير ببطء في ربوع الصحراء، فتكون حركتهم بين صعود وهبوط، يفرضهما إيقاع سير الإبل، وعزوت التمهّل في الحركة إلى دور المُناخ الحار الذي لا يُمدّد الهواء فقط، وإنما يمدّد حركة الأجساد أيضاً.
وكلّما وقعت عيناي على حلقة رقص كُردية في الشمال والشرق والجنوب، على شكل نصف دائرة، وترتجّ فيها الأجساد على شكل رجفات سريعة، والقوم ثابتون في أماكنهم، أو يتحرّكون ببطء شديد، وجدت في الدائرة بُعد التكوير في الجبل، ووجدت في الرجّات السريعة الحاصلة في النصف العلوي من الجسد، حركة مجموعة من راكبي البغال، وهم يقودونها في شعاب جبلية وعرة، ومعروف أنّ البغل هو الحيوان الأنسب للبيئات الجبلية الوعرة، ووجدت في الهزّات والرجّات القشعريرةَ التي تعتري الأجساد في برد جبال كُردستان، وما يقوّي هذا التفسير أنّ الرجّات السريعة تختفي في رقصات كُرد المناطق الغربية والغربية الجنوبية السهلية والمتاخمة للسهول.
ـ الملاحظة الرابعة: ثمة في منطقة عِفرين رقصة شهيرة تسمّى Giranî، ويعني اسمها بالكُردية (الوقور/الجليل)، وهي رقصة يزخر إيقاعها بالوقار والمهابة حقاً، تنتصب فيها الصدور، وتشمخ فيها الرؤوس، وتتلاصق فيها الأجساد، ورغم دويّ قرعات الطبل، تتحرك الأقدام ببطء ورزانة لمسافة قصيرة جداً، وينصبّ التركيز هنا على القائد، ويكون عادة في القمة من الوقار؛ رغم أنّ عليه التفنّن في إبداع الحركات، مستعملاً أصابع القدمين، والحوار بالحركة مع قرعات الطبل وأنغام الزُّرنا. ومن صلاحيات القائد أن يبتعد عن رديفه خطوة أو خطوتين، ويخرج عن مسار الدائرة متوجّهاً إلى الداخل، لأداء بعض الحركات الفنية الخاصة، لكنه يبقى على تواصل مع الجماعة من خلال منديل طويل يمسكه من الطرف رديفه التالي له من حيث الترتيب، وعليه ألا يطيل في الابتعاد، وإنما العودة إلى الانتظام في الصف من جديد.
مفارقـة مثيرة:
منذ مدة غير قصيرة يراودني- بشأن الرقصات الكُردية- سؤال لم أجد له تفسيراً مقنعاً إلى الآن، فقد مرّ أنّ رقصات الكُرد الشعبية هي في معظمها جماعية، وعلى شكل نصف دائرة، أو ما يقترب من الدائرة، وأنّ ثمة على الدوام قائداً يقود المشاركين في الحلقة، وهو الذي يحمل المنديل (چُوپی اopî) ويلوّح به، ولا يجوز لأحد أن يتخطّاه، وغالباً ما يكون قارع الطبّل ونافخ الزُّرْنا قريبَين منه، وكثيرَي الاهتمام به.
حسناً، يمكننا تفسير الشكل الدائري على ضوء جغرافيا الجبال من ناحية، وعلى ضوء دائرة (ماندل/مندالا) Mandela العريقة في الميثولوجيا الكُردية (انظر مبحث ذهنية الكُرد الدينية)، والتي بقيت حية في الدين الأيزدي، وبقيت ظلالها في عملية (ضرب المَنْدَل) عند المنجّمين، للتنبّؤ بأحداث المستقبل. ويمكننا تفسير الشكل الدائري أيضاً على ضوء المجلس العام لأفراد القبيلة، أو لقادة القبائل المتحالفة في العهد الميدي، والذي كان يسمّى Hangimana أو Hangimatana أو Hagmatana (بنيت مكانه مدينة أگباتانا عاصمة ميديا) (انظر أڤستا، مقدمة، ص 19. دياكونوف: ميديا، ص 384. عبد الحميد زايد: الشرق الخالد، ص 584)، وكان مجلساً دائري الشكل، يتساوى فيه الجميع، باعتبار أنّ كلّ زعيم قبلي لا يعطي الفرصة لزعيم آخر كي يبرز عليه، ويشبهها في العرف السياسي الحديث مصطلح (الدائرة المستديرة).
ويمكننا تفسير انتظام الجميع في حلقة واحدة، يداً بيد، وكتفاً إلى كتف، والتحرك جميعاً وفق إيقاع معيّن، دونما أيّ إخلال أو نَشاز، وسيرهم جميعاً خلف قائد واحد، يحمل الراية (المنديل)، ويلوّح بها مباهياً، ومحدّداً مسار أفراد الحلقة جميعاً، على أنه تعبير عن وحدة أفراد القبيلة، وسيرهم في صف واحد خلف زعيم القبيلة، أو على أنه تعبير عن وحدة زعماء القبائل ضمن تحالف وحد، بقيادة شخص منتخَب يمتلك كفاءات القيادة، فتوضع الراية في يده، وتكون له الصدارة، وهذا يعني أنّ الرقصات الكُردية عموماً تجسّد روح الوحدة والانضواء تحت قيادة واحدة.
والسؤال هو: ما بال التشرذم الذي يفتك بالمجتمع الكُردي منذ خمسة وعشرين قرناً؟ أما كان من المفترض أن تنعكس إيقاعات وحدة الصف في حلقات الرقص العفوي على مسار المجتمع الكُردي، ويتجلّى في إيقاع اجتماعي وسياسي متناغم ومتجانس؟ أما كان من المفترض أن يوجد- بالتوازي مع السير خلف قائد واحد حامل للراية الواحدة في حلقات الرقص- شعب واحد، يسير طواعية خلف قائد واحد أو قيادة واحدة؟
أم أنّ دلالات وحدة الصف في حلقات الرقص ما هي إلا تجسيد لوحدة الصف القبلي وحده، وليس وحدة صف الشعب كلّه؟ أم أنها إرث يجسّد وحدة صف الاتحاد القبلي عند أسلاف الكُرد في العهد الميدي؟ أم أنّ ثمة انفصاماً في بنية الوعي الجمعي الكُردي- بخصوص وحدة الصف- بين المأمول والممكن؟ أم أنّ ما نلمحه في حلقات الرقص الشعبي من وحدة صف، وسير خلف قائد واحد، وعلى إيقاع متجانس، هو مشروع شعبوي عفوي، أبدعه اللاشعور الجمعي الكُردي الجماهيري، كنوع من الاحتجاج على الواقع المتشرذم، وكحافز للوحدة صفاً وقيادةً ومساراً؟
ثالثاً – من فولكلور المراعي
يبدو من خلال ما ذكره نيكيتين أنه كان كثير المخالطة للكُرد الرحّل، وهم يسمّون Rewend (رَوَنْد) وKoçer (كُوچَر)، ونقل في كتابه (الكُرد) بعض المشاهد الخاصة بفولكلور المراعي، فنقل عن باحث يدعى ميللينكن وصفاً لحلقة رقص رعوية، فقال:
“لقد تحوّلت خيمتنا هذا المساء إلى مهرجان واسع، سرعان ما امتدّ إلى سائر الخيم، وكان يزيد مـن نشوتنا ضوءُ القمر الساطع، ونيران الليل اللاهبة، وقد عمّت الفرحة الجنود أيضاً، واختلطوا بالكُرد الذين تألّفت منهم حلقة (الدبكة). وبمجرد أن عُزفت بعض الألحان الكُردية، تشكّلت حلقات رقص منظَّمة، وبدأت تقدّم رقصات كُردية. ويستحقّ الرقص الكُردي وصفاً دقيقاً، كما أنه يمتاز ببعض الخصوصية التي لا أجدها في الرقصات الشرقية الأخرى؛ إنّ إحدى خصائص الرقص الكُردي هي أنه لا يؤدَّى مطلقاً بصورة انفرادية أو ثنائية وحتى رباعية، فهو يبدأ فيه بتكوين حلقة غير كاملة، يأخذ كل رجل فيها دوره إلى جانب امرأتين، ويلامس كتفه كتف زميلته التي تكون بجانبه.
ولكن الخاصية الأكثر تميّزاً فيه هي أنّ الراقص في جميع أنحاء العالم يحرّك عند الرقص جميع أطراف جسمه قليلاً أو كثيراً، أما الراقص الكُردي فيبقى بدون حراك تقريباً، ويكتفي بحركات قليلة وخفيفة من ركبتيه، … بل تكون الحلقة مجتمعة في حركة ناعمة ومتموجة، وتهتز على إيقاع الموسيقى، وتبدو وكأنها حقل قمح يداعبه نسيم ناعم. وعندما يرقص المقاتل الكُردي فهو يقدّم عرضاً من أكثر العروض شاعريةً ورومانسية، عرضاً يتناسب مع هيئته. وقد لمحنا في نظراتهم جميعاً وكأنهم على وشك أن يُغمى عليهم من أثر عشق داخلي مؤثّر، ولكن عندما ينتهي الرقص يعود الجميع إلى حالتهم الاعتيادية، وكأنهم لم يكونوا قبيل هنيهات في حالة ذوبان في العشق “. (نيكيتين: الكرد، ص 225 – 226).
وقال نيكيتين يصف مشهد انتقال الكُرد إلى المراعي الصيفية (زُوزان) Zozan :
“وبعد أن تنمو الخرفان، وتقوى، ويزداد ذوبان الثلوج في الجبال، يُحدِّد الأُوباباشي [زعيم الأُوبة] يوم (برو- دان) [الإطلاق]؛ أي يوم الرحيل من الدولكا [مكان تضع فيه المواشي حملانها] باتجاه المراعي الجبلية، ويكون الاستعداد لهذا اليوم قد بدأ منذ أسبوع، وها قد حلّ يوم الاحتفال؛ منذ الصباح الباكر يرتدي الجميع أفضل ملابسهم، وتُزيّن الفتيات، اللواتي لبسن ملابسهن الزاهية، رؤوسَهن بالزهور البرية النَّضِرة، وتعلّقن بأنوفهن الخزامة والقطع الذهبية المستديرة، ومعها حلقات ذهبية كأقراط، وتهيّئ المُوسِرات منهن أنوف بناتهن منذ الطفولة لهذه الغاية، كذلك تزيّن الخِراف والنِّعاح والمِعز بخصل الصوف المذّهَّبة، وتُعلَّق في رقاب أفضل الكباش الجَلاجلُ النُّحاسية، ثم يتركون النعاج والحملان؛ لتعود إلى القطيع المشترك، ثم يٌحدَّد موعد السير”. (نيكيتين: الكرد، ص 98).
ويستمرّ نيكيتين في وصف المشهد قائلاً:
” وعندما تكون الشمس قد تجاوزت الأفق صوب كبد السماء، تكون الاستعدادات قد أوشكت على الانتهاء، وفي مثل هذا النهار الربيعي، إذ تكون السماء صافية، والهواء منعشاً معطَّراً بأريج الأزاهير البرية، التي تفتّحت براعمها للتوّ، تحين ساعة الاحتفال، وقد أصبح كلّ شيء جاهزاً، فيعطي الأوبابشي إشارة البدء بالرحيل، ويتقدّم موكبَ (برو- دان) الراعي الرئيسي في أحسن ثيابه، وفي يده مزماره، إنه يقوم بدور القائد، ويعطي تعليماته إلى الفتيان في طريقة معاملتهم للحملان أو النّعاج التي ترفض إرضاع صغارها، ويأتي خلف الراعي الرئيسي أكبرُ وأجمل كبش، وهو ما يسمّى بالكردية (نَيرِي) Nêrî [الصواب: بَران Beran، ويقال: نَيري لذكر الماعز] وقد عُلِّق في رقبته جرسٌ يرسل رنّات عالية.
وقبل الانطلاق مباشرةً يخاطب كلّ مالك رعاته بالقول: إني إذ ائتمنتك على قطيعي أطلب منك أن تؤدّي واجبك بأمانة وشرف. وبعد انتهاء هذه المراسم، يبدأ الراعي الرئيسي بالعزف على مزماره، فيتحرّك الموكب، ويسير القطيع بانتظام خلف الراعي الذي يصاحبه الفتيان، بينما يحيط مساعدوه الرعاة والصبايا بالجوانب، ليحافظوا على سير المسيرة، وأحياناً يلوّحون بعصيّهم أو يصفّرون بطريقة خاصة، ليمنعوا أيّ خلل في القطيع”. (نيكيتين: الكرد، ص 99).
وعلقّ نيكيتين على المشهد قائلاً:
“ورغم انقضاء سنوات عديدة على اليوم الذي رأيت فيه لأول مرة موكب (برو- دان)، ما تزال الصورة عالقة بذهني، وكأنني أرى الآن مشاهد الأطفال المشرقة، والشبابَ والرعاة بملابسهم الزاهية وأغانيهم الشعبية، تحت ضوء أشعة الشمس الساطعة، حيث كان الوادي مغطًّى بطبقة من الخضرة، بينما كانت الجبال التي تمتدّ أمام نواظرنا من بعيد ما تزال مكسوَّة بالثلوج. أما ثُغاء الحِملان والنِّعاج، وصفيرَ الرعاة وأغانيهم مع الفتيان، فكانت تتجاوب من بعيد في الوادي العميق، ويأتي الأهالي من أماكن سكناهم مسرعين لمشاهدة هذا الموكب المبهِج”. (نيكيتين: الكرد، ص 99).
وإليكم مشهد آخر لفت انتباه نيكيتين، إنه يوم (بَران بَرْدانَه) Beran berdane؛ أي إطلاق الخراف الذكور وسط الإناث للتزاوج، فقال:
“وفي يوم (بَران بَرْدان) تُفصَل النعاج في حظائر مسيَّجة، وتُطلَق بينها الكباش لإخصابها، وكانت هذه الكباش ترعى خلال الصيف كله في قطيع منعزل. ويُتّخَذ هذا الإجراء كي تحمل النعاج في موعد قريب من الربيع المقبل، ويأخذ بعض الشباب أحياناً لإطلاق النار في الهواء، كأنهم يحتفلون بزفاف نعاجهم، وتُهيَّأ في هذا اليوم أصناف من الأطعمة اللذيذة، مثل (مرتوكا) Mertoka [غير متأكد من صحة اللفظ]، وهو صنف من الحلوى، و(كاتا) Kata وهو نوع من الزلابية الرفيعة المحلاّة بالسكر، و(قاوُرْمَه) Qaworme؛ أي اللحم المطبوخ [الصواب: اللحم المقلي]، ويُدعى الجميع للعشاء، ويوزَّع ما تبقّى منها على الفقراء في صحون خاصة.
وتنزع الفتيات عن رؤوسهن المناديل الحريرية، ويربطنها حول أعناق الخراف المحببة إليهن، فيتقدّم الشباب ويأخذونها، تعبيراً عن حبهم لهن، ورغبتهم في الزواج منهن، ويراقب الأهل الفتى الذي التقط منديل ابنتهم، وهم يعرفون أنّ الاتفاق كان قد تمّ في الصيف، فإذا لم يُمانع الأهل عُقدت الخطوبة، وبعد وقتٍ قصير يُحتفَل بالزواج”. (نيكيتين: الكرد، ص 108).

منقول عن موقع العربي بتصرف

المقال منشور في جريدة يكيتي العدد “303”

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى