الصراع السوري وملامح تبلور المناطق الآمنة
عبدالباقي اليوسف
دعوات إنشاء منطقة آمنة في سوريا تعود إلى نهاية عام ٢٠١١ بعد ان احتدم الصراع بين الشارع السوري المنتفض والنظام الرافض لمنح الحريات واحترام كرامة الانسان، والذي كان قد بدأ ببطش المتظاهرين و قصف المدن و البلدات السورية بالسلاح الثقيل بما فيه المدفعية والطيران، إلى أن اضطر المتظاهرون لرفع شعارات تطالب بالحماية الدولية. وكانت تركيا قد سبقت غيرها من الدول بالدعوة إلى إقامتها على حدودها مع سوريا، ابتغت من خلالها التحضير لاسقاط النظام، وقطع الطريق أمام طموحات الكُرد إذا ما ارادوا يوماً إنشاء منطقة ذات حكم ذاتي في شمال سوريا، وهذا بعد أن تيقنت تركيا من أن علاقاتها الطيبة مع النظام لن تجدي نفعا في اشراك حزب الاخوان المسلمين في الحكومة وذلك بعد اجراء بعد الاصلاحات.
لا شك أن المعضلة السورية لم تعد اليوم، أو بالأحرى منذ عدة سنوات، بيد السوريين، فالصراع الداخلي السوري على السلطة تحول إلى صراع دولي واقليمي على سوريا بحد ذاتها، وهنا تبرز عدة حقائق منها:
فشل كل محاولات النظام لإنهاء الانتفاضة من خلال الحلول الامنية؛ فقد مارس العنف المفرط ضد المتظاهرين، وأقحم الجيش في قمع الانتفاضة، ودفعها إلى التسليح، وجلب القوى الطائفية كحزب الله اللبناني، وميليشات شيعية إيرانية وأخرى عراقية. وبهدف تشوية سمعة المنتفضين قام بجلب منظمات إرهابية إلى سوريا كانت لدى أجهزته الأمنية علاقات وثيقة معها، إلا أنه لم يستطع الانتصار على المعارضة رغم الدعم الكبير من إيران التي تبحث عن تشكيل هلال شيعي يصل الى سواحل البحر المتوسط حسب آراء الكثير من المحللين السياسيين. مما إضطر بالنظام إلى دعوة روسيا إلى التدخل في سوريا، وهذا لا ينفي نجاح نظام دمشق في بعض خططه كـوصم المعارضة بالارهابية، حيث تمكن من دفعها نحو حمل السلاح والتشدد، ودخول منظمات طائفية متشددة و أخرى ارهابية أضفت على المعارضة الصبغة الطائفية. قد يعتبر هذا نصرا للنظام، لكن على المدى القصير، أما على المدى البعيد فلم يعد بإمكانه إخفاء طابعه الطائفي، والذي كان الأسد الأب حريصاً على إخفائه تحت مظلة الشعارات القوموية والشعبوية، واستمر من بعده وعلى نهجه ابنه بشار، والذي حاول أن يضفي على حكمه نوع من العصرنة المزيفة.
الحقيقة الثانية هي أنه رغم المساندة الدولية الكبيرة لانتفاضة الشعب السوري، إلا أن المعارضة بشقيها السياسي و العسكري الذي نشأ على إرث تلك الانتفاضة الجماهيرية لم تستطع صياغة مشروع وطني لسوريا المستقبل يعبر عن طموحات جميع مكونات الشعب السوري القومية و الدينية والطائقية و يحظى بثقتهم، و يضمن استمرار الدعم الدولي لها. وفي السياق ذاته يتطلب منها الاقرار بعدم تمكنها من تحقيق مركز قرار موحد في تعاملها مع القوى الدولية والاقليمية والعربية رغم إنشائها لبعض الأطر مثل المجلس الوطني السوري، ومن ثم الإئتلاف الوطني السوري لقوى الثورة والمعارضة، أوالهيئة العليا للمفاوضات، فقد ظل التعامل المادي والتسليحي مع تلك الدول من خلال قنوات فردية، وبالنتيجة فرضت تلك العلاقات لبوسا اسلامياً حتى على الجمعات العلمانية، كما وساهمت بعض الأطراف في تشكيل بعض المنظمات الإرهابية، واصبحوا إمتداد لسياسات تلك الاطراف، والتي تعنيها مصالحها بالدرجة الاولى قبل مصلحة الشعب السوري في أحسن الأحوال. لذا وجدنا بعد دخول روسيا المباشر في المعادلة السورية، وفي ظل تغيب أي دور أمريكي فاعل في عهد اوباما، تراجع دور الدول العربية الخليجية و تركيا، مما حدا بالأخيرة إلى مراجعة علاقاتها مع روسيا، ودخلت في مفاوضات غير علنية مع النظام كانت نتيجتها استعادة النظام سيطرته على بعض المناطق مثل حلب الشرقية، ومناطق من حمص ودمشق.
كل هذا انعكس بشكل سلبي على موقع المعارضة التفاوضي في جنيف ٣ و جنيف ٤، و رغم ذلك لا تتجرأ المعارضة على إجراء مراجعة لمواقفها و سياساتها، وتحاول باستمرار إلقاء جزء من مسؤولية اخفاقاتها على الآخرين، تماما كما تلقي اليوم على المبعوث الدولي ستيفان ديمستورا، مما أدى بالأخير إلى عدم إبداء أي إحترام لوفد المعارضة اثناء مباحثات جنيف٥، وهذا ما اشتكى منه الوفد لبعض وسائل الإعلام.
الحقيقة الثالثة هي أن هذه المعارضة التي فرضت على السوريين لم تستطع ايصال الانتفاضة إلى اهدافها لتبلغ مصافي الثورات من خلال إسقاط النظام القديم، وتأسيس نظام سياسي واجتماعي جديد. من جهة أخرى لم يستطع النظام إنهاء المعارضة، وليس بمقدوره إعادة فرض سيطرته على كامل التراب السوري، وما المفاوضات الجارية بين الطرفين منذ جنيف ٢ وتحت الرعاية الدولية والعربية إلا دليل على الواقع السوري الحالي والمقسم. كما وإن تجربة السنوات الستة الماضية برهنت على أن الطبيعة البنيوية للاطراف الرئيسية في الصراع السوري، إن كانت داخل النظام أو المعارضة، لا تؤهلها للمبادرة بصياغة مشروع وطني على قدر الحدث تدفع بالمعضلة السورية نحو تسوية تاريخية.
المشهد السوري الحالي والمؤلم نتيجة الحرب الداخلية العبثية والتي تأخذ طابعا مذهبيا وقوميا، أدت بما يقارب نصف الشعب السوري إلى الهجرة أو النزوح، أتخذت منه بعض الدول الاقليمية المهاجرين السوريين كورقة سياسية في صراعاتها، وتأتي تركيا في المقدمة عندما تبتز أوروبا سياسيا وماليا، في وقت تواجه فيه الدول الاوربية سيول المهاجرين إن كانت من بعض الدول الافريقية أوالاسيوية، إلى جانب بروز مشكلة المنظمات الاسلامية المتطرفة والارهابية والتي تهدد الاستقرار في العديد من الدول الاوربية، و تساعد في تنامي التيارات الشعبوية في هذه الدول، لذا يشتد اليوم الطلب على إيجاد منطقة أو مناطق آمنة لحماية المدنيين من القتل، ولوضع حد للهجرة. فهل يأتي طلب الرئيس الامريكي دونالد ترامب بتكليف وزارتي الخارجية والدفاع بإعداد خطة امريكية للموضوع السوري تضمن إنشاء مناطق آمنة في سوريا في إطار هذا السياق؟، أم أنه نوع من الضغط لإجبار النظام على التخلي عن المراوغة، والدخول في مفاوضات حقيقية؟ أم هناك غايات أخرى كالتهديد الأمريكي للنظام في عهد أوباما، والذي تكلل بتفكيك السلاح الكيميائي للنظام.
تسير الاوضاع في سوريا نحو تبلور العديد من المناطق الآمنة إلى جانب توفر المسوغات القانونية لإنشاء تلك المناطق، ففي مقالة له بعنوان “المبررات القانونية لإقامة منطقة آمنة في سوريا” يورد السفير الامريكي السابق جيمس جيفري العديد من الاعتبارات القانونية الامريكية، والتى تعطي الرئيس صلاحيات تفويضية باستخدام القوة العسكرية في دول أجنبية، كالتي صدرت في ١٨ ايلول عام ٢٠١١، و كذلك امكانية استخدام الادارة الامريكية لقواتها العسكرية لدعم تنفيذ قرار مجلس الامن الدولي رقم ٢٢٥٤، هذا القرار الداعي للمساعدة الانسانية داخل سوريا، وفي هذا الصدد ايضا ورد في تقرير(معهد دراسات الحرب) في شهر تشرين الثاني عام ٢٠١٦ مسوغات امكانية استخدام الولايات المتحدة لقرار مجلس الامن الدولي رقم ٢١٧٠ لعام 2014، والذي يخول الدول بالتحرك ضد تنظيم الدولة الاسلامية.