العراق يتعرض الى تغيير ديموغرافي خطير!
كفاح محمود
ربما كان البريطانيون الأوائل في إحداث التغييرات الديموغرافية التي تخدم مصالحهم وخططهم في تأسيس مملكة العراق، حينما استقدموا مئات العمال من مناطق بعيدة عن كركوك وإهمال أهاليها في الاستفادة من الاكتشافات الأولى للنفط في أراضيها، مما دفع زعماء كوردستان عبر التاريخ باتهامهم في إحداث تغييرات ديموغرافية عنصرية لصالح مجموعات أخرى، والاعتماد على تلك التوجهات والأساليب من قبل كل من حكم بلاد النهرين بمختلف الوسائل والأشكال، حتى تفاقمت بعد التغيير الحاد في النظام السياسي العراقي وتحوله إلى نظام جمهوري بانقلاب قاده عبد الكريم قاسم، حيث بدأت من حينها عمليات تغيير ديموغرافي شمل معظم محافظات العراق ومدنه.
تحت طائلة إنصاف الفقراء والمعدمين وصغار الموظفين المدنيين والعسكريين تم بناء عشرات الأحياء السكنية حول المدن وكانت تظم في معظمها نازحين من الريف أو من بلدات أخرى قريبة أو بعيدة، سرعان ما تحولت تلك الأحياء إلى اسفنجة سكنية سحبت أعدادا هائلة من سكان الريف أو البلدات النائية إلى مراكز المدن والعاصمة تحديدا، وقد تطورت عمليات التغيير الديموغرافي وان اختلفت التسميات في حقبة حكم حزب البعث العربي الاشتراكي منذ انقلابه في شباط 1963 وحتى إسقاطه من قبل الولايات المتحدة وحلفائها، حيث تكثفت في إحداث تغييرات عنصرية أو مذهبية حادة على المدن التي يطلق عليها اليوم في الدستور العراق بالمناطق المتنازع عليها، وهي مناطق تعرضت إلى عمليات تعريب حادة كما حصل في كركوك وخانقين ومخمور وسنجار وسهل نينوى ومناطق أخرى.
لقد نجح نظام حزب البعث في ترييف معظم المدن العراقية وفشل في تمدين أي قرية من قراها طوال ما يقرب من أربعين عاما من حكمه، الذي تفاوت بين التوجه الاشتراكي على طريقته الخاصة بإلغاء طبقة العمال وتحويلها بجرة قلم إلى موظفين، ونقل مئات الآلاف من الأرياف إلى المدن، خاصة شرائح الأميين وأنصاف المتعلمين كعناصر في الجيش والأمن والمخابرات والشرطة والجيش الشعبي وبقية أجهزته الخاصة، وتوطينهم في مراكز المدن بتسهيلات كبيرة، وتحويلهم إلى أدوات طيعة لتنفيذ برامجه السياسية، وبين تحوله الكلي إلى النمط الديني بإعلانه الحملة الوطنية الإيمانية التي فرضت تعليمات وتفسيرات دينية مشوشة، والاتكاء على رجال الدين تارة وعلى شيوخ العشائر تارة أخرى، أولئك الشيوخ الذين افتتح لهم دائرة خاصة في ديوان الرئاسة، مقسما إياهم إلى ثلاث موديلات أو درجات.
وبعد أن أسقطت الولايات المتحدة الهيكل الإداري لنظام الدكتاتور صدام في نيسان 2003 جاء النظام البديل الذي افترض معظم العراقيين بأنه سينتهج أسلوبا مغايرا ونظاما أكثر عدالة وتطورا، مكملا لذات النهج في إحداث تغييرات كارثية على المجتمعات العراقية وثقافاتها، فقد أصبحت معظم مدن العراق وحواضره التاريخية مجرد قرى كبيرة انتعشت فيها العادات والتقاليد القروية، وتعملقت البداوة في السلوك والممارسات التي قزمت دور القانون وهمشته إلى درجة إحلال نظامها وتقاليدها بدلا عنه في كثير من القضايا، بل إن قوانين العشيرة وأعرافها غدت هي سائدة تساندها مجاميع من المعممين ورجال الدين المسيسين الذين يفرضون إتاواتهم وقوانينهم وتفسيراتهم الخاصة للهيمنة على الأهالي، الذين يعانون من فقر مدقع وصل في آخر إحصائياته إلى ما يقرب من 40%، وأمية استشرت في نصف السكان المنتج تقريبا وبطالة خطيرة حولت غالبية الشبيبة في سن الإنتاج إلى الالتحاق بالميليشيات والمجاميع المسلحة سواء تحت غطاء الدولة أو التي تعمل لحساب شخصيات أو قوى أجنبية.
والمراقب لحركة المدن العراقية سواء كانت مراكز محافظات أم مراكز أقضية بعد 2003، فبعد أن كانت الأمور محصورة في المناطق الكوردستانية التي تعرضت لتلك العمليات أصبحنا الآن أمام مشكلة عويصة جدا، خاصة بعد أن نجحت منظمة داعش الإرهابية في تمزيق كثير من الأنسجة الرابطة بين الأديان أو بين المذاهب وفقدان الثقة تماما بين تلك المكونات التي تعرضت للإبادة والاسلمة، مما دفع نمطا آخر لتغيير الديموغرافي وهو التغييرالمذهبي الذي تتعرض له كثير من المدن والبلدات، حيث فقدت هذه المدن الكثير من خصوصياته المدينية وهويته الحضارية لحساب هويات جديدة مزينة بأنماط غريبة من السلوك والثقافات، دفعت سكانها ونخبها الاجتماعية والسياسية تحت ضغط هائل من النظام المذهبي والعشائري بامتياز إلى الانغماس بهذه الثقافات تحت طائلة الفقر والبطالة والسوط العقائدي، بحيث لم تعد ترى ما يشعرك كمراقب أو باحث في العراق خارج إقليم كوردستان بان حركة الحياة تتقدم إلى أمام، بل على العكس تماما حيث يسودك شعور بالتقهقر إلى الوراء، وأنت تشهد مظاهر دينية متطرفة ومتشددة، وسلوكيات قروية وبدوية بدأت طاغية على مظاهر المدنية والمدينية.
حقيقة ما حصل يبدو كارثة اجتماعية وتربوية خطيرة جدا لا يمكن إصلاحها بوقت قصير، بعد أن استخدم الدين في تأصيل تلك المظاهر بدعم مطلق من العقلية القبلية التي أصبحت ملاذا آمنا بفقدان سلطة القانون وضعف مؤسسات الدولة واستشراء الفساد في معظم مفاصلها بغياب مفهوم رفيع للمواطنة، مما يتطلب إحداث تغييرات جوهرية في المناهج التربوية والتعليمية وأساليبها، والفصل الكلي للدين عن السياسة ونظام الدولة وقوانينها، مما يحفظ قدسية الأديان وهيبتها بعيدا عن المناكفات والمنافسات السياسية، ويتيح للنظام السياسي ومؤسساته اختيار أنجع وأحدث التجارب الحضارية للنهوض بالمجتمعات التي نخرتهاوخربتها النزعات القبلية والدينية العنصرية والمتطرفة بمختلف أشكالها ومسمياتها.
azzaman
جميع المقالات المنشورة تُعبر عن رأي كتابها ولاتعبر بالضرورة عن رأي Yekiti Media