آراء

العــراق وكُـردستان والمستقبل

كفاح محمود كريم

الخوض في بواطن التاريخ بقدر ما يطلعنا على بعض الحقائق لكنه أيضا صورة قاتمة لما حصل على الأقل خلال قرن من الزمان، ومن هنا أريد أن استعرض وبسرعة لكي لا أثقل على القارئ بصفحات مؤذية من تاريخ هذه المنطقة، التي ما زالت تغلي وتندفع حممها من براكين وضعت أسسها عبر التاريخ، لتحرق الأخضر واليابس لأقوام سكنت هذه المنطقة الموبوءة بالعقائد والإيديولوجيات والقبلية والعنصرية والطائفية المقيتة، حمم تحولت إلى حروب ومآس وكوارث كما وصفها احد الدبلوماسيين الأمريكيين أبان توقيع اتفاقية لوزان وراح ضحيتها ملايين البشر من مختلف الأقوام والأعراق والأديان والمذاهب، ولعل ما حصل للأرمن والكرد نهاية القرن التاسع عشر ومطلع العشرين بداية لتلك الكوارث والمآسي، وما يؤكد إصرار العنصريين بكل أشكالهم القومية والدينية والمذهبية على الشمولية المقيتة هو تلك الحمم التي تندفع بضراوة وما تزال حرائقها مستعرة، وها هي داعش وردود أفعالها الطائفية تمثل آخر مبتكرات المآسي في العراق وسوريا.

وفي العراق وكردستان العراق ومنذ أكثر من مئة عام عمل الكردستانيون على إنشاء دولة مدنية متحضرة ديمقراطية مع شركائهم العرب وغيرهم من شعوب هذه المنطقة من العالم، دولة تعتمد أسس المواطنة في بنائها الاجتماعي والسياسي، وكانت الخطوة الأولى بعد اتفاقية سايكس بيكو سيئة الصيت، أن منحوا ولاية الموصل العثمانية هويتها العراقية في استفتاء عصبة الأمم بالربع الأول من القرن الماضي، أملا في أن يحقق الشركاء الآخرون في المملكة العراقية ( ولاية بغداد وولاية البصرة ) وعودهم في تنفيذ مطالب شعب كردستان في شكل الدولة وأساسياتها وحيثياتها بما يضمن حقوقهم الإنسانية والثقافية والسياسية، وطيلة ما يقرب من ثمانين عاما لم يتلق الكرد من وعود الحكومات المتعاقبة في بغداد وعلى مختلف مشاربها وتوجهاتها، إلا الحروب المدمرة التي استخدمت فيها أبشع أنواع الأسلحة، بما في ذلك المحرمة دوليا كالأسلحة الكيماوية والعنقودية والنابالم، ناهيك عن عمليات الأرض المحروقة، التي أتت على أكثر من ثلث كردستان في عمليات الأنفال سيئة الصيت (ثمانينات القرن العشرين )، والتي ذهب ضحيتها ما يقرب من ربع مليون إنسان، وتدمير خمسة آلاف قرية بما فيها من بساتين وينابيع ومنشآت، إضافة إلى قتل أكثر من ثمانية آلاف بارزاني وتغييب مئات الآلاف من الكرد الفيليين في وسط العراق، وإسقاط جنسياتهم العراقية وتهجير عوائلهم إلى إيران (سبعينات القرن العشرين)، وأتباع سياسة الصهر القومي والتغيير الديموغرافي لسكان المدن الكردستانية المتاخمة لحدود العراق العربي مثل كركوك وسنجار وزمار ومندلي وسهل نينوى ومخمور والشيخان وعقرة وغيرها طيلة نصف قرن 1958- 2014 وأخيرا تسهيل احتلال أجزاء من كردستان العراق من قبل منظمة داعش الإرهابية واقتراف واحدة من أبشع جرائم التاريخ بحق الايزيديين والمسيحيين في كل من سنجار وسهل نينوى حزيران وآب 2014 .

كوارث ومآسي

ورغم تلك الكوارث والمآسي بقي الكرد يعملون ويناضلون من اجل تأسيس دولة مواطنة متحضرة ديمقراطية، تحفظ العراق موحدا بشراكة حقيقية وتوجه مخلص لمعالجة جروح الماضي وتعويض السكان عما أصابهم من ويلات، وبهذه الروح ذهبوا إلى بغداد في آذار 1970 حينما تصوروا إن القائمين الجدد على الحكم ينوون التعامل مع القضية الكردية بجدية، وفعلوها قبل ذلك في الستينيات مع عبد الرحمن البزاز، لكن الحقيقة كانت غير ذلك لدى الطرف الثاني، حيث سياسة فرق تسد التي اتبعتها كل الأنظمة مع شعب كردستان وقياداته، وفرض مشاريع هزيلة كما فعلوا في تجربتهم البائسة فيما سمي بعد 1975 بقانون الحكم الذاتي الحكومي، الذي انهار وبدأت سلسلة جديدة من الكوارث والمآسي والحروب التي راح ضحيتها خيرة أبناء كردستــان وبناتها، وخيرة شباب العراق ممن تورطوا في تلك الحروب القذرة مجبورين غير مخيرين، دونما أن تنتج تلك الصراعات إلا الدمار والتقــــهقر والتخلف للبلاد، حتى اسقط التحالف الدولي مطلع الألفـــية الثالثة نظام صدام وحزبه الذي تســـــــبب في معظم مآسي الشرق الأوســط حتى يومنا هذا.

لقد تخلى الكردستانيون عن استقلالهم الذاتي الذي فرضته انتفاضة الربيع 1991 وأقرته قرارات مجلس الأمن الدولي قرار 688 وتسارعوا إلى بغداد حفاظا على وحدة العراق وبناء دولة المواطنة والشراكة الحقيقية تحت خيمة ديمقراطية حقيقية ونظام مدني متحضر، والمساهمة في تأسيس دستور دائم يحفظ للبلاد وشعوبها كل الحقوق والامتيازات ويحترم خياراتها وتطلعاتها في دولة اتحادية اختيارية ( من دون نعرة طائفــــــــية، ولا نزعة عنصرية، ولا عقدة منـــــــاطقية، ولا تمييز، ولا إقصاء ) و ( إن الالتزام بهذا الدستـــــــــــور يحفظ للعراق اتحاده الحر شعبا وأرضا وسيادة).*

تشريع دستور

وبعد أكثر من عشر سنوات (بعد تشريع الدستور الدائم ) من وضع هذه الوثيقة الجامعة وشروطها في الالتزام، ماذا حصل وماذا جنينا ممن يحكمون بغداد؟

– تحول النظام تدريجيا إلى نظام طائفي بحت، بعد أن اتفقنا على أن يكون بلدا ديمقراطيا مدنيا.

– الكتلة البرلمانية الكبرى ( دولة القانون ) تقود حملة لفرض نظام الأغلبية السياسية، مستخدمة ذات الأسلوب الذي استخدمه حزب البعث في صناعة مجاميع من العملاء داخل كردستان وبوصفهم ممثلي الشعب الكردستاني.

– محاصرة الإقليم اقتصاديا بحرمانه من حصته في الموازنة العامة منذ 2014 – 2017 مع قطع كافة رواتب الموظفين المدنيين والعسكريين، والبالغة أكثر من خمسين مليار دولار.

– إقصاء وتهميش بقية المكونات وإتباع سياسة الاحتواء والصهر على شاكلة ما كانت تفعله النظم السابقة في لملمة الانتهازيين والمرتزقة من المكونات المختلفة.

– إلغاء كافة مكاتب تمثيل إقليم كردستان في السفارات العراقية مخالفة للدستور.

– تصفية القوات المسلحة والأمن والاستخبارات من كل المكونات وتهميشهم وإبعادهم عن مواقع القرار.

– تأسيس ميليشيات مسلحة خارج منظومة القوات المسلحة الوطنية على أسس طائفية، وتجميلها بإكسسوارات عشائرية وشخصية هزيلة من مكونات مختلفة لا تمثل إلا نفسها.

– إشاعة الفساد وإدامته وإضــــــــــاعة فرص التقدم وبنـــــــــاء دولة مدنية، بهدر مئات الملـيارات من موارد البلاد.

– تعطيل وإيقاف تطبيق معظم مواد الدستور وفي مقدمتها ما يتعلق بحقوق السكان في المحافظات من تأسيس الأقاليم، بل ومحاربتهم كما حصل مع مطالب شعب البصرة والانبار وصلاح الدين ونينوى، وكذلك تعطيل قانون النفط والغاز وتطبيقاته والمادة 140 وعدم إجراء تعداد عام للسكان.

قائمة خروقات

وقائمة الخروقات تطول وتمتد على كل مساحة العراق ومكوناته، حتى أصبح اليوم واحدا من افشل دول العالم وأكثرها بؤسا ورعبا وفسادا، ناهيك عن إن سيادته في الأصل مثلومة باختراقات دول الجوار وما بعد الجوار تحت مختلف التسميات والعناوين، حتى غدت عاصمته تحكمها عصابات ومافيات مسلحة تستمد شرعيتها من الرب والدين والمذهب وفي كل حي وشارع، حيث الميليشيات وحكم قرقوش والصراع الطائفي المقيت، لهذه الأسباب ولأن شعب كردستان يختلف كليا عن شعب العراق عرقيا وقوميا وثقافيا وتاريخيا وحضاريا وجغرافيا، فإنه بعد أن فشل خلال قرن من الزمان في بناء دولة مواطنة، وأن يكون شريكا حقيقيا في كيان مختلق وضد رغبة الشعبين، قال كلمته وطلب أن يكون الشعبان شجرتين مثمرتين باسقتين، لا شجرة واحدة معلولة بثمار مشوهة، لكي يسود السلام بعيدا عن الصراعات الدموية والسياسات العنصرية والطائفية.

جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عــن رأي Yekiti Media

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى