العوامل الاقتصادية وأثرها في نمو الأفكار التطرفيّة
د. فواز جرجس
أكثر ما يصدم أثناء دراسة تاريخ الجماعات المتطرفة أن أفكار التطرف ومفاقس التفريخ للإرهاب ظهرت في البيئات العربية الأكثر ثروة والأكثر غنىً اقليمياً وعالمياً وتحديداً دول الخليج النفطيّة وقد تفرعت عنها أفكار الإرهاب أو كما يسمونها بعض رجال الدين المتطرفون في هذه الدول بالأفكار الجهاديّة إلى الدول التي دخلت مجال استثمارها السياسي (مصر، ليبيا،سوريا، العراق ؛أفغانستان ،اليمن الصومال) وقد غذّت هذه الدول بقصد أو بدون قصد بصورة مباشرة أو غير مباشرة عناصر الانتحاريين في هذه الحركات الإرهابية “القاعدة، النصرة، داعش بوكو حرام،تنظيم الجهاد والقاعدة في المغرب،أنصار الشريعة ” وأحياناً لايعدو تفسير ظاهرة الإرهاب وفق المقولة الاقتصادية أن يكون مجرد تبريرات تصطف ضمنياً الى جانب هذه الحركات وتدخل في نطاق تلك التبريرات ادعاءات التهميش السياسي التي تمارسها جهات داعمة للإرهاب بقوة في منطقتنا وفي بلداننا..
لقد كانت عوامل الفقر والحرمان الاجتماعي والسياسي وراء ظهور الكثير من الحركات المناضلة والتحررية ضد النظم السياسية المستبدة في البلاد العربية، وكذلك محاولات الإقصاء والتهميش المستمرة كانت تمارسها تلك الأنظمة، ولكن هذه الحركات وعلى مختلف إيديولوجياتها لم تلجأ الى وسائل التطرف في التعبير عن مواقفها أو أساليب الإرهاب في مواجهاتها السياسية، فالجذر الثقافي فيها كان بمنأى عن توجهات الإرهاب الثقافية والفكرية أو ما نعبر عنه بإصولها الفكرية وبناها الإيديولوجية.
من هنا لابد من البحث عن العوامل الراكزة والمتسببة في نشوء الإرهاب في ثقافتنا وفي تاريخنا السياسي على وجه الخصوص، “وتمييزه عن النضال الوطني المشروع وحق الشعوب في المقاومة وتقرير المصير “ويبدأ ذلك في فشل النظام التربوي في عموم البلاد العربية والمتعلق بوسائل واتجاهات تنشئة أجيال من المواطنين تتأسس فيهم التربية نحو قيم عليا حديثة الطابع أو المضمون حول مفهوم الدولة وحقوق الانسان.
لقد نتج عن هذا الفشل تراجع التحول نحو بناء دولة عربية ذات صبغة وصيغة حديثة تقوم على مبدأ المواطنة ومبادئ حقوق الانسان. إن عودة فكرة أو مفهوم الجماعة القبلية هو الذي أودى بالدولة العربية الحديثة الى مهاوي التفكك والانحلال وعودة فكرة أو مفهوم الجماعة الطائفية هو الذي أدى الى تمزق النسيج الاجتماعي في مجتمعاتنا العربية.
ذلك أن الجماعة بكِلا مفهوميها القبلي والطائفي على الضد دائماً من مبدأ المواطنة وضرورة الدولة الحديثة في البناء على أساسها. والتي دأبت النخب العربية العقلانية والمثقفة على بناء هذه الدولة العربية الحديثة في اعقاب الحرب العالمية الاولى.
لكن أخطر عودة لفكر الجماعة الطائفية كان في جلباب الجماعات السلفية، تلك الجماعات التي سعت في كل تاريخها الى تهميش العقل وأدواته ومفاهيمه المعرفية مما أدى إلى إنكفاء ذاتها أمام التحولات الحضارية والثقافية التي شهدها العالم الحديث وأنتجها العقل الإنساني الذي التزموا اتجاهه بموقف إيديولوجي وعقائدي سلبي.
وكذلك انتجت السلفية انغلاقها وانغلاق اتباعها بوجه الآخر المسلم من غير مذاهبهم، والأخر غير المسلم ومن كل الأديان بطريقة عندهم أولى نتيجة انغلاق مذهبهم وفقههم بوجه العقل واستنادهم فيما عرف عندهم بالنقل وعصمة هذا النقل. ويعد كتاب (مجموع الفتاوى) لمؤلفه ابن تيمية مصدرا مهماً في الفكر والفقه السلفي في إقصاء الاخر وإلغائه روحاً وجسدا.
هذا الآخر الذي يشكل بمفهومه الحضاري الحديث تحولاً جوهرياً من خلال مبدأ المواطنة، فلم يعد هناك إنسان آخر في الدولة الحديثة بل فرد مواطن يتساوى في الحقوق والواجبات، وهي رؤية تخالف تماماً الرؤية السلفية نحو الآخر الذي امتلأت كتبهم وفقههم بتكفيره وجواز قتله وسلبه. وقد تضمنت أفكار وفتاوى فقيه السلفية المعاصرة ابن العثيمين الكثير من تكرار مقالات ابن تيمية في تهميش الآخر وإلغائه سواء كان مسلماً أو غير مسلم.
ويشكل ابن تيمية في موقفة الفقهي ومصادره في السلفية الجذر الأول في التكوين الديني والثقافي لأفكار التطرف التي رأيناها في سلوك القاعدة وإنتاجها الأكثر تشوهاً في داعش. وبالنتيجة فإن فشل النظام التربوي في الدولة العربية الحديثة وما نتج عنه من فراغ حضاري مهد إلى إشغاله بالفكر المتطرف والسلوك الإرهابي من خلال الحركات السلفية التي مولتها وأشرفت عليها مؤسسات دولية وإقليمية.
جميع المقالات المنشورة تُعبر عن رأي كتابها ولاتعبر بالضرورة عن رأي Yekiti Media