العِلم والدّين – تناقض أَمْ تكامل
محمد رجب رشيد
أثارت ثنائية العِلم والدِِّين تساؤلً،ا منذ القِدم، أَسَالَ دماً ثمّ حُبراً، حتى بَدا وكأنّهما خصمان لا يلتقيان، ونقيضان لا بقاء لأحدهما إلّا بإلغاء الآخر.
خلافاً للحقيقة، يعتقد الكثير من الناس بِوَهَم التناقض بين العِلم والدين ، دون تقديم أدِلّة دامغة. إنّ الاختلاف الظاهِر بينهما، في المنهج، لا يرتقي إلى أيّ شكلٍ من أشكال التناقض، فلكلٍّ منهما خصائصه وساحته، فالدين يُفسِّر نشوء الكون، ويحدِّد كيفية التعاطي مع الحقائق الموجودة فيه، ثمّ يجيب على تساؤلاتٍ ما فَتِئ الإنسان يطرحها منذ سكن الكهوف إلى يومنا هذا: كيف وُجِدَ الإنسان؟ ما مصيره بعد الموت؟ كيف ولماذا يتميّز عن غيره من الكائنات الحية بالذكاء والمشاعِر والعواطِف؟ بينما العِلم يتعامل فقط مع المُشخّص من الأشياء، دون الخوض في الغيبيّات، فضلاً عن تلبية حاجة الإنسان إلى تفسير سلوكه، ومعرفة ذاتِه المادي، والأرض التي يحيا عليها، والكون المحيط به، للتوضيح أكثر لا بدّ من فهم ماهيّتهما.
إنّ الدّين عند الله واحد هو الإسلام، يقوم على ثلاث دعائم هي : القِيَم الإنسانية الحميدة، إقامة الشعائر، الإيمان بالغيبيات ومِن أهمُّها مُسلّمة الإيمان بالله واليوم الآخِر، والمُسلّمة هي الشيء الذي لا يمكن البرهان عليه علميّاً، وبنفس الوقت لا يمكن دحضُه علميّاً.
تبقى المرجعية الوحيدة للدين هي الكُتُب السماوية، كما أُنزِل من الله دون تحريف، أمّا الأحاديث المرويّة وكُتُب الفقه والتراث فليست من الدين بشيء. والمُسلِم هو كلّ مَنْ أقام الصِلة مع الله، من خلال الإيمان بِه وبِالآخِرة، وعمل صالحاً، من عدالة الله يتساوى في هذا النوع من الإيمان الفِطري جميع الناس، بغضِّ النظر عن مستوى ذكائهم، لو كان الإيمان بحاجة إلى براهين علمية لآمن الأذكياء فقط دون الأغبياء، والعاملين في المجال العلمي دون غيرهم من الناس.
يتضِّح مِمّا سبق أنّ أتباع جميع الرُسل مُسلِمون بدءاً من إبراهيم إلى محمد عليهما الصلاة، أمّا غير المِسلِم فهو كُلّ مَن قطع صِلته مع الله، وَقد وصفهم الله بالمجرمين (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ)ص، من المُلاحظ عدم ورود كلمة (أديان) في المصحف، بينما وردت كلمات (شَرَعَ، شَرِيعَةً، شِرْعَةً) في عِدة مواضِع (شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحاً)، (لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً، وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً)ص. بمعنى أنّ الدين واحد كما أسلفنا، ولأتباع كُل رسول من الرُسل شريعة خاصَّة به.
الله سبحانه وتعالى لم يُصنِّف الناس إلى رجال دين ورجال دنيا، ومع ذلك ظهر أُناس أطلقوا على أنفسهم لقب رجال الدين مِن أتباع -موسى (حاخامات)، عيسى (كَهَنة)، محمد (شيوخ)، أساؤوا إلى الدين عندما جعلوا من أهوائهم ومن الفقه والتراث ونمط الحياة التي كانت سائدة منذ آلاف السنين ديناً موازياً للدين الذي أنزله الله على رُسُلِه.
لا يختلف الأمر كثيراً، بالنسبة لِعُلماء المسلمين، فليس بينهم أي مُفكِّر أو فيلسوف أو عالِم مختص بإحدى الفروع العلمية -رياضيات، فيزياء، كيمياء، طُب، فلك، جيولوجيا،… إلخ-، وأكبر إنجازاتهم لا يتجاوز كيفية دخول الحمام والغُسل والشفاء بالحبة السوداء، وشُرُب بول الإبل، ونقل أقوال أسلافِهم ،كما هي دون التأكُّد من صحّتِها ومطابقتها للمصحف.
أمّا العِلم فإنّه يتمحور حول تقديم تفسير عقلاني لِدورة حياة الكائنات الحية والعلاقة السائدة بينها، ودراسة ظواهر الكون والطبيعة واكتشاف قوانينها وصوغها بمعادلات رياضية، مِمّا يفتح الباب لاكتشافاتٍ عظيمة واختراعات عديدة تخدم الإنسانية، وتُسخِّر لها خيرات وموارِد الأرض.
لم يُوصينا العِلم بِبِرِّ الوالدين أو مساعدة المُحتاج أو رفع الظلم عن المستضعفين، لكنّه اكتشِف لنا أنّ انشطار ذرة اليورانيوم ينتج طاقة هائلة يمكن الاستفادة منها في الخير والشر. لم يُخبِرُنا العلم عن غاية وجودنا، وفيما إذا كان الموت نهاية المطاف أم بإنتظارِنا حياةً أُخرى، لكنّه شرح لنا آلية عمل أجسامنا، وكيفية علاج أمراضها. لن يتمكّن العِلم -مهما تقدّم- من كتابة نص أدبي أو قصيدة شِعر، ولن يستطيع تقييم مقطوعة موسيقية، أو الحُكم على جمال لوحة فنية، ليس عجزاً! بل لأنّها تقع خارج ساحته.
يقول الفيلسوف الإنكليزي فرانسيس بيكون (قليل من العِلم ربّما يجعلك ملحداً، والكثير منه يجعلك مؤمناً بالله)، ينطبق هذا القول على نظريّة كروية الأرض وعدم مركزيتها، ونظريّة التطوّر. لقد أثارت نظرية كروية الأرض وعدم مركزيتها -لِلعالِم البولندي كوبرنيكوس في القرن السادس عشر- صراعاً عنيفاً، ليس بين العِلم والدين ، وإنّما بين العُلماء والكنيسة، وذلك لتضارب النظرية مع تفسير الكنيسة الحرفي لنصوص مقدّسة، فنصبتْ محاكم التفتيش وأحرقت كُتب العلماء والبعض من مُؤلفيها. بعد أقل من قرن تعرّض العالم غاليليو للمقاضاة من قبل محكمة التفتيش الرومانية الكاثوليكية بتُهمة دعم نظرية كوبرنيكوس حول كُروية الأرض ودورانها مع مجموعة الكواكب الأخرى حول الشمس، وصفت الكنيسة تلك النظرية بالهرطقة، حظّرت على أثرها الكُتب التي تتحدّث عنها، وطلبت من غاليليو عدم الترويج لِمثل هذه الأفكار والدفاع عنها، فرضخ لقرار المحكمة مُرغماً. لم يتمكّن العُلماء من كسب المعركة مع الكنيسة إلّا بعد تحرُّرِهم من سلطتها ونبذ كهنوتها وراءهم.
لا يختلف الأمر كثيراً بالنسبة لنظرية التطوّر، فمازال الجدل قائماً حولها إلى يومنا هذا، حيث أدّى الفهم السطحي لها في نهاية المطاف إلى تطرُّف ذي اتجاهين متعاكسين، تجاهل كِلاهما المنهج السَوي في قبول أو رفض النظرية، وحقيقة أنّ الإيمان بالله لا يفرض الخوض في دحض الحقائق العلمية، والإلحاد مهما بلغ بالمرء لا يستطيع نسب تلك الحقائق لغير الله سبحانه وتعالى؛ لأنّه الخالق! . فالمؤمن بالله اعتبرها أكذوبة علمية كبيرة، رفضها وحكم عليها بالإلحاد دون مقارنتها مع قصة الخَلق كما ورد في المصحف. أمّا المُلحد فقد وجد فيها ضالته المنشودة لدحض قصة الخَلق وإنكار وجود الله؛ لِكونها حقيقة علمية تُدرّس في معظم الجامعات العريقة.
إذا كان الله سبحانه وتعالى هو من وضع جميع قوانين الكون وعلوم الطبيعة وعلم الأحياء -جاذبية الشمس لِمجموعة الكواكب التي تدور في فلكها، جاذبية كل كوكب على حِدى، سرعة الضوء، سرعة الصوت، الضغط الجوي وتغيُّره مع الارتفاع والانخفاض عن سطح البحر، عدم قابلية السوائل للإنضغاط، درجة غليان الماء ودرجة تجمُّدِه، نمو الكائنات الحية وتكاثرها، …. إلخ-، وحثّ الإنسان على إكتشافها والإستفادة من تطبيقاتها، وإذا كان الدّين رسالة من الله سبحانه وتعالى لهداية الناس إلى طريق الحقّ في الدنيا، والنجاة في الآخرة، فكيف سيُناقِض أحدهما الآخر -العِلم والدّين- إذا كانا من مصدر واحد؟!
المقال منشور في جريدة يكيتي العدد 302