آراء

الـبــارزانـي المقــاتـل.. الحلقة الثالثة

محمد زكي أوسي

التراث: يُعرَف التراث بأنه الآثار المكتوبة أو الأعمال والمنجزات التاريخية المتميزة التي يخلفها الإنسان بعد حياته, ويشمل التراث جوانب عديدة من العلوم والمعارف, فيقال مثلاً: التراث الفكري, التراث العلمي, التراث العسكري, التراث الفلسفي وهكذا.

التراث العسكري للبارزاني الخالد:

اقتحم البارزاني الخالد ساحة النضال القومي والوطني على صعيد الأمة الكُردية و جنوب كُردستان في منتصف عشرينيات القرن العشرين وشقّ طريقه هذا المفروش بالصعاب والمشاق حتى رحيله يوم 1- آذار – 1979م, طوال نصف قرن, وظلّ طوال هذه الفترة حديث الناس، خارج وداخل العراق عامةً وشعبنا الكُردي خاصةً, وكان محطّ اهتمام وسائل الإعلام المتعددة, وترك البارزاني خلال هذه الفترة بصماته على كافة جوانب تاريخ الحركة القومية والوطنية لشعبنا الكُردي وفعاليات البيشمركة والحزب الديمقراطي الكُردستاني.

البارزاني مقاتلاً: ظهرت شخصية البارزاني العسكرية في ثورة بارزان الأولى أواخر عام 1931م, في الاشتباكات مع البرادوستيين والمعارك التي خاضتها قواته مع الجيش العراقي في معركتي برقي بك ودولافازاي، ونمت مقدرته العسكرية تدريجياً في ثورة بارزان الثانية عام 1942 – 1945م, أثناء القتال ضد قوات الجيش والشرطة العراقية والمرتزقة في معارك خيرزوك ومه زنه وميدان موريك وجبهات بالندة وعقدة, ونضجت كفاءته العسكرية في شرق كُردستان خلال المعارك البطولية التي اضطلعت بها قواته ضد الجيش الفارسي خلال وبعد انهيار جمهورية كُردستان نهاية عام 1946م, في معارك فاراوا ومل قره ني و نه لوس وكوجاري, ووصلت مقدراته العسكرية النادرة المثيل أوجها خلال العمليات العسكرية التي رافقتا انسحابه الأسطوري إلى الاتحاد السوفييتي في شهر أيار وحزيران (1947)م عبر جيوش كلٍّ من إيران وتركيا والعراق, مضيفاً إلى قيادته العسكرية المقدامة لقوات البيشمركة منذ اندلاع ثورة أيلول (1961م) ولغاية (1975م) تلك الثورة التي لم تنتكس عسكرياً, إنما راحت ضحية مؤامرة متعددة الأطراف, لقد أثارت مقدرة البارزاني الخالد العسكرية اعجاب واهتمام الأعداء والأصدقاء, ووضعه الاختصاصيون العسكريون في مصافِ كبار قادة حروب الأنصار عالمياً.

عوامل تكوين شخصيته العسكرية:

يبدو لكلّ متتبع للجوانب التفصيلية للمعارك التي قادها البارزاني أثناء حياته العسكرية، وهي أكثر من أن تحصى, دون أن يخسر واحدة منها, رغم تفوق الأعداء عدداً وعدةً وتكنلوجياً, فما سرّ ذلك كلّه؟

إنّ الأسباب الكامنة وراء ذلك تعود قبل كلّ شيء إلى:

أولاً: شجاعة البارزاني وإقدامه وجسارته.

ثانياً: الاستخدام الأمثل للأرض وطبيعتها والاطلاع الدقيق على تضاريسها من خلال جولاته المستمرّة في طول كُردستان وعرضها.

ثالثاً: التوجيهات المستمرّة إلى المقاتلين بالصبر وضبط النفس والاقتصاد في العتاد, وعدم المباشرة في الرمي قبل دخول الأعداء إلى مناطق القتل المحددة من قبله سلفاً.

رابعاً: تواضعه وتعامله الإنساني الرفيع مع المقاتلين وتواجده ضمنهم بل في المقدمة دائماً, والاستماع إلى مشاكلهم وحلها بالعدل والمساواة, وتوزيع الواجبات فيما بينهم بدقة قبل خوض المعركة، مما يجعله قدوة لهم وامتثالهم المطلق لأوامره وتوجيهاته.

خامساً: ما يسمّيه القادة العسكريون (تقدير الموقف) المسبق والصحيح القائم على المعلومات الاستخبارية الدقيقة عن الخصم وقدراته مفصلاً, بقصد تحقيق النصر سريعاً, اعتماداً على مبدأ المباغتة والمراوغة وبأقل عدد ممكن من الخسائر, وهذا دليل ثقافة عسكرية وخبرة قلّ نظيرها, ومقدرةٍ فائقة على التحكم بمجرى الأحداث بقوة وحكمة واقتدار.

الأمثلة والشواهد: وهي غيض من فيض, لأنّ القيام بمراجعة شاملة لكلّ المعارك التي خاضتها قواته وأكبرها حجماً تؤكّد أنه لم يتكبّد في معظمها خسائر كبيرة, رغم فداحة الخسائر التي تكبّدها الخصم في العدد والعدة, ويمكن ذكر أمثلة وشواهد عليها:

أولاً: معركة جبل هندرين في ربيع عام 1966م, والتي تمّت تحت إشرافه وتوجيهاته السديدة, ونفّذ خطّطها بكلّ شجاعة واقتدار رئيس أركان البيشمركة (عبد الله بشدر) ورئيس اللجنة العسكرية في الحزب الشهيد البطل ادريس البارزاني اللذين أدارا المعركة وشاركا فيها عملياً وهي أفضل مثال, حيث ألحق بضع مئات من البيشمركة, هزيمة منكرة (إبادة) باللواء الرابع من الفرقة الثانية من الجيش العراقي الذي كان متحكّماً بالجبل المذكور في ذلك الوقت, والذي بادر إلى الفرار أمام الهجوم المباغت والصاعق الذي شنّته قوات البيشمركة تاركاً قتلاه وجرحاه وكامل معداته في ساحة المعركة, وهذا كان سبباً لدخول حكومة عبد الرحمن البزاز في الحوار مع قيادة الثورة, وإصدار بيانٍ يقضي بوقف إطلاق النار لفسح المجال أمام المفاوضات.

ثانياً: أثناء استئناف العدوان على شعبنا عام (1969م) تمكّن جيش النظام من اختراق مضيق دربند رانية باتجاه قلعة دزة، وكان من بين المواقع والربايا الكثيرة التي أقامتها في المنطقة, ربية قوية شيّدتها في نقطة حساسة بين سينه سه ر ومدخل دولي شهيدان, وكان تدميرها وازاحتها ضرورياً, لاستراتيجيتها وقوة تأثيرها على حركة قوات البيشمركة, فأمر البارزاني رئيس حرسه (عمر آغا دوله مه ري) بتنفيذ هذه المهمة مزوّداً إياه بتوجيهات صائبة لضمان نجاح العملية, وكان في الربية أكثر من سرية من القوات فأخذ عمر آغا أقلّ من خمسين مسلحاً ،عكس القواعد العسكرية القاضية بأن يكون عدد المهاجمين ضعف عدد المدافعين, وفي غارة صاعقة تمّ تحرير الربية وقتل جميع أفرادها والاستيلاء على ما يقارب من مئة كلاشنكوف، أما خسائر البيشمركة فكانت جريحان فقط,

إنّ ثقة البارزاني العالية بالنفس تعتبر إحدى المقومات الأساسية لشخصيته العسكرية, ومصدر القوة والإلهام لقوات الثورة.

ثالثاً: خلال النصف الأول من عام (1965م) شنّت قوات الحكومة عدواناً على شعب كُردستان، أحرزت فيه تقدماً في مناطق كثيرة من محافظة كركوك والتي كانت تدافع عنها قوات الفرقة الثالثة للبيشمركة بقيادة المقدم عزيز عقراوي, وتمكّنت كذلك من التقدم في بعض المواقع السهلية في محافظة أربيل، وتواصلت هجمات الجيش العراقي بشدة لإخراج البيشمركة الصامدة في جبل سفين ملاك قاطع الفرقة الثانية للبيشمركة بقيادة رشيد سندي, وقد كان لهذا أثر سلبي على المعنويات في المكتب السياسي, الذي تحدّث عن هذا الموقف في لقاءٍ خاص مع البارزاني الخالد، فأجاب بكلّ هدوءٍ وبساطة بأنه يتوقّع استيلاء الجيش العراقي على جميع مناطق الفرقة الثالثة وبعض مناطق الفرقة الثانية للبيشمركة, وسيضطرّ بنفسه إلى تنظيم قوة ممتازة من (400) بيشمركة مع ستة مدافع هاون بقيادته لاستعادة كلّ المناطق التي استولت عليها القوات الحكومية, ذكرنا هذا مثالاً على ثقته اللامتناهية بنفسه بعيداً عن التبجّح والتظاهر, بل كانت نابعة من الإيمان القائم على دعائم ثابتة من التجارب السابقة.

كان البارزاني بالإضافة إلى ما ذكر يملك قدرة كبيرة على الإحساس بالخطر وتحديد مصدره وتحديد الأولويات, فقد أدرك بدقةٍ منذ بداية ثورة أيلول الأهمية الاستراتيجية المركبة لمنطقة بالك اعتباراً من كلي علي بك وإلى نقطة الحدود في منطقة حاجي عمران من النواحي العسكرية والسياسية والتموينية, واعتبرها العمود الفقري للثورة الكُردية, وكان تقديره صائباً, لذلك أمسك وبقوة بهذا المحور منذ 1963 وحتى 1975م, رغم كلّ المحاولات البائسة الفاشلة للجيش العراقي.

إننا نلاحظ هذه الأيام الكثرة الكاثرة في عدد المرافقين للمسؤولين السياسيين والعسكريين, وهدير أسطول سياراتهم أثناء تنقلاتهم, بينما كان أفراد الحماية الخاصة للبارزاني لا يتجاوز عددهم ثلاثين شخصاً أثناء جولاته راجلاً, وكانوا يحشرون في سيارتين أو ثلاث إذا كانت الجولة بالسيارات.

هذا هو تراث البارزاني العسكري, المستند على مجموعة مبادئ ثابتة في العلم العسكري مقترنةً بالتطبيق المبدع لها على أرض كُردستان وممزوجة بالمواهب الذاتية العبقرية لهذا القائد الشعبي الباسل.

المقال منشور في جريدة “يكيتي” العدد 304

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى