الفيدرالية في سورية حلّ أم خيانة؟
سميرة المسالمة
يطرح النزاع على درعا بين النظام في سورية من جهة، وقوى المعارضة المحلية وحاضنتها الشعبية على الجهة المقابلة، تساؤلاتٍ عديدة في مساراتٍ مختلفة. ليس فقط ما يتعلق منها بمصير التسويات بين النظام ومعارضيه من الناحية القتالية، ومسؤولية تنفيذها ومراقبتها من رعاتها الدوليين الأساسيين (روسيا، الولايات المتحدة)، ولكنه أيضاً يأخذنا نحو المفاهيم الجديدة لدى السوريين، لما يمثله شكل الدولة الجديد ونظامها السياسي، ومدى تمسّكهم باستقلالية قرار مناطقهم، سواء لجهة أمنها الداخلي، أو إدارة مواردها المحلية، والمؤسساتية. ما يدعونا من جديد إلى البحث في المصطلحات التي يمكن أن تنظم العلاقة الدستورية والقانونية لهذه المناطق التي خرجت عن إرادة النظام، وفلتت من قبضته الأمنية، مع سورية “الدولة” أو سورية “النظام”.
ودرعا اليوم في مطالبها، كمثال واضح وصريح، ترفض العودة إلى ما هي عليه سورية بشكلها ونظامها الحالي، وهي برفضها وجوده الأمني، وتبنّي قواها المحلية مسألة الحفاظ على أمن المواطنين وسلامتهم وإدارة مواردهم، تفتح من جديد النقاش في فكرة تحرير سورية سياسيا ودستوريا من شكلها السابق، والذي يتمسّك به النظام تحت مسمى “الحفاظ على وحدة سورية وشعبها”، ويتهم معارضي مركزيته بالانفصاليين القوميين والمرتهنين لأجندات خارجية. إلا أنه هنا تخرج من يده تهمة التقسيم القومي، لأن الحديث في حوران من الهوية العربية ذاتها، ما ينفي أن فكرة التحرّر من المركزية، أو الحكم الذاتي، بدعة قومية، غرضها الانفصال أو التقسيم، فهل ما تطرحه درعا حل يمكن تعميمه على مناطق سورية كافة، أم أنه خيانة لمركزية سورية “النظام”؟. وهذا يطرح بقوة السؤال عن مستقبل سورية كدولة، قبل أي حديثٍ عن تفاصيل ما بعد شكل الدولة، وفي كليهما لا يزال الوقت مبكّرا جدا، لسببين: استعصاء عملية التغيير لأسباب ذاتية وموضوعية. وأن السوريين، سلطة وشعبا، باتوا خارج معادلات التقرير في شأن البلد، بواقع تغوّل المداخلات الخارجية، المتباينة.
وعلى الرغم من تلك الملاحظات الأساسية، فإن هذا السؤال يكتسب مشروعيته، وضرورته، وحيويته، من ضرورة إيجاد إجماعات وطنية بين السوريين، مع ملاحظة أن ثمّة عديدا من الهواجس، والمشكلات، والتعقيدات، المتعلقة بذلك السؤال، ليس فقط من حيث موضوعه، ولكن من حيث القدرة على التعاطي مع إجاباته، من دون مواربة أو التفاف على المصطلحات، او ابتداع تسمياتٍ ليست إلا مرادفات للمعنى ذاته مع وهم الشعارات.
مثلا، لا يمكن تعريف سورية، من دون تعريف شعبها، أو لا يمكن الحديث عن مستقبل سورية، بلدا، من دون الحديث عن الشعب السوري، إذ لا يوجد وطن من دون مواطن، أو مواطنين، وهي عكس المعزوفة التقليدية، المزيفة، والتي شاركنا بترويجها زوراً، حين نصبنا الوطن، أو لخصنا الوطن، بالأرض، ثم بالسلطة، ثم بالرئيس القائد، إذ الشعب في هذه الحالة مجرد رعايا، أو جماهير، وليسوا مواطنين يشكّل مجموعهم معنى “الوطن”. وحينها يتم تعريفه بمجموع المواطنين الأفراد، المستقلين، الأحرار، والمتساوين، في حقوق مواطنة قانونية وسياسية ينص عليها الدستور، وهذه المكانة هي التي تحدّد طبيعة علاقتهم بالنظام الحاكم، وطبيعة العلاقات البينية التي تحكمهم.
ومن ناحية أخرى، في الحديث عن الدولة، يفترض أنها تساوي بين المواطنين، بغض النظر عن طبيعة النظام السياسي، ديمقراطية أو لاديمقراطية (في مرحلة انتقالية)، فالدولة غير السلطة، إذ الحديث هنا عن الدولة بمعناها دولة مؤسسات وقانون، وهذه يفترض أن تكون محايدة، أو تتعامل مع مواطنيها على قدم المساواة، من دون أي تمييزٍ بين مواطن وآخر، لأي سبب كان. وفي الواقع، لم نختبر، في سورية خصوصا، وفي البلدان العربية إجمالا، لم نختبر سوى السلطة، إذ افتقدنا دولة المؤسسات والقانون.
أيضا، في ارتدادات تجربة الدولة السورية، أو للحؤول دون إعادة إنتاج التجربة السابقة، يفترض تحصين التجربة الجديدة بعديد من النصوص الدستورية التي تؤكد، وتضع الحدود، بين السلطات التشريعية والقضائية والتنفيذية، والتي تنصّ على تداول السلطة، وعلى أن الشعب هو صاحب السيادة، أو مصدر السيادة، وهذا هو لبّ التحول الديمقراطي، ومن دونه لا يمكن الحديث عن الديمقراطية، إلا إذا كانت ديمقراطيةً مزيفة، أو صورية، بحيث تقتصر على عمليات انتخابية شكلية، للرئيس ولمجلس الشعب.
في الغضون، يمكن نقاش اقتراحات عديدة، وضمنها مثلا، النظام النيابي، بحيث يكون للرئيس مناصب بروتوكولية، وتكون السلطة التنفيذية بيد حكومة الأكثرية النيابية، أو يمكن الأخذ بالنظام المختلط (على الطريقة الفرنسية). أيضا، وبواقع هيمنة مركز السلطة (دمشق) على البلاد، وتهميش الأطراف (درعا في الجنوب والرّقة ودير الزور والقامشلي شرقا وإدلب شمالا) يفترض أي تفكير في المستقبل دراسة خيار إقامة نظام فيدرالي في سورية، وهو ذاته الذي يجري الحديث عنه وفق مصطلح اللامركزية، إذ لا يوجد معنى آخر لنظام اللامركزية، علما أن ذلك المصطلح بات مثارا للشبهة بسبب تلوينه على أساس قومي، كما بسبب رفضه من جهاتٍ أخذت المعارضة السورية إلى مساراتٍ قوّضت وحدة الشعب السوري، وعمّقت خلافاته وتبعيته الخارجية.
ثمّة مسألتان هنا يفترض التأكيد عليهما، أولاهما أن أقوى الدول اليوم (الولايات المتحدة وألمانيا وروسيا والصين وسويسرا) هي ذات نظام فيدرالي، وأن الدول التي تتعرّض للانقسام هي الدول المركزية. وثانيتهما، أن الفيدرالية تقوم على أساس جغرافي، لا على أساس إثني أو طائفي، وهذا يتطابق مع تقسيم المحافظات في سورية، بمعنى أن ثمّة سلطات محلية (خدمات التعليم والصحّة والبلديات والتنمية الاقتصادية والأمن الداخلي يكون من نصيب السلطات المحلية في المحافظات)، في حين تكون السلطة المركزية مسؤولة عن النظام السياسي والمالي والاقتصادي، وعن الجيش، وعن العلاقات الخارجية، فهل سورية أمام استحقاق البحث عن وحدتها وتنميتها، أم أنها على موعد مع هزيمتها وتمزيقها قطعة وراء أخرى؟